أن الإنسان يمرّ في رحلة الحياة الدنيا بمراحل عمرية مختلفة، تبدأ بسن الطفولة وتنتهي بسنّ الشيخوخة والهرم، حيث قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)، ولا شك أن لكل مرحلة عمرية خصائصَها ومزاياها التي تختلف عن مزايا المراحل الأخرى وخصائصها؛ فللطفولة براءتها وطهرها وعفويتها، وللشباب حماسته ونشاطه وحيويته، وللكهولة هيبتها ووقارها ,وسوف نتوقف قليلاً عند أهمّ مزايا مرحلة الشباب، هذه المزايا التي قد تشترك في بعضها سائرُ المراحل العمرية، لكنّنا نجدها بارزة في مرحلة الشباب أكثر من غيرها. والوقوف على هذه المزايا في غاية الأهميّة، فهي تستدعي مسؤوليات تتناسب معها، ومن الضروري التعويل عليها.
إن أهم المزايا التي يتمتع بها الشباب في هذه المرحلة هي:
أولاً: الطاقة والحيوية: فمرحلة الشباب تمثّل مرحلة الحيويّة والنشاط والحماس ، فالشباب طاقة متدفّقة، وهمّة متوثّبة، وبما أنّ الشباب طاقة فسوف يُسأل المرء عنها يوم القيامة، ففي الحديث الشريف:( لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن جسده فيما أبلاه، و عن عمره فيما أفناه، عن ماله مما اكتسبه و فيما أنفقه، و عن حبنا أهل البيت).
ثاني أهم الخصائص التي يمتاز بها الشباب الفطرة السليمة: فالإنسان عندما ولادته يولد وهو يحمل فطرة نقيّة، بعيدة كل البعد عن كافّة أشكال الانحراف، وتستمرّ الفطرة على صفائها ونقائها إلى حين بلوغ الإنسان وأوان شبابه، وتبقى مستمرّة كذلك إذا حافظ عليها الإنسان من تأثير الملوِّثات الروحيّة والفكريّة , وبوحي هذه الفطرة البعيدة عن الملوّثات نرى الشباب متحفّزاً لكلّ خير، ومتطلّعاً للتغيير، وهكذا نراه أقرب إلى الصلاح، وأكثر قبولاً للتهذيب والإصلاح، فالشاب يُرجى إصلاحه أكثر من الكهل، لأنّ الكبير قد تقيده العادات التي اعتادها ويقسو قلبه بفعل تراكم المؤثرات المختلفة، ويصبح من الصعب تغيير قناعاته، ولو تمّ إقناعه فربما تمنعه روابطه الخاصّة وعلاقاته من تغيير ما هو عليه والسير في طريق جديد، بينما الشاب حيث إنّه أقرب إلى الفطرة ولا تقيّده الكثير من المثقلات فإنّه أبعد عن العادات السيّئة، وأقرب إلى تبديل قناعته وخياراته ومواقفه، يقول الإمام الصادق(ع) لأحد أصحابه المعروف بالأحول: "أتيت البصرة؟ قال: نعم، قال(ع): كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر (يقصد خطّ أهل البيت (ع)) ودخولهم فيه؟ فقال: والله إنّهم لقليل، ولقد فعلوا، وإنّ ذلك لقليل، فقال(ع): "عليكم بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ خير"، فإن الشباب اصحاب فطرة سليمة لم تلوثها الأهواء والعادات السيئة، فهي تميل للخير وتتطلّع إلى الكمال، كما أن مرحلة الشباب هي مرحلة التأسيس الفكري والعاطفي ، فما يتعلّمه الإنسان في صغره وشبابه فإنّه يثبت في ذهنه ويبقى، على عكس ما عليه الكبير فإنّ ذاكرته تضعف وتضمحل؛ ففي الحديث عن الإمام موسى بن جعفرعن آبائه (ع) قال: قال رسول الله (ص وآله): "من تعلّم في شبابه كان بمنزلة الرسم في الحجر، ومن تعلّم وهو كبير كان بمنزلة الكتاب على وجه الماء".
إن ثالث مميزات الشباب هي المثاليّة: وهي تطلّعهم نحو الأفضل والأرقى في كلّ شيء، وهذه ميزة إيجابية وطيبة، وهي إحدى انعكاسات الفطرة السليمة، نعم مستمعتي فالمثاليّة بما تعكسه من روح متحمسة نحو التغيير، وهمّة كبيرة تسعى للتجديد وتدفع نحو الإبداع والتغيير، فهي شيء جميل وممدوح ومطلوب، ولا بدّ من استثماره ، فالروح الشابّة هي التي غيّرت وجه التاريخ، وقادت الثورات الكبرى وكلّ عمليات التحرّر.
إن الميزة الرابعة التي يمكن رصدها لدى الشباب هي قوّة الأحاسيس العاطفيّة؛ فالإحساس بالجمال والكمال موجود في الشباب أكثر من غيره من المراحل وعاطفة الحبّ هي من أكثر العواطف الإنسانية حضوراً لديهم، والحبُّ هو المنطلق لكلّ خير وإبداع وتغيير، وقوّة نبض العاطفة وحضورها لدى الشباب هو علامة خير ودليل عافية، بيد أنّ هذه الميزة قد يتمّ استغلالها بطريقة مسيئة ومدمّرة، حيث إنّ الإنسان إذا تحرّك بموجب عواطفه دون أن تكون العاطفة منضوية تحت قيادة العقل وإمرته فسوف يُوقع نفسه في مشاكل كثيرة، فإنّ من تقوده عواطفه لا عقله، أو لا يوازن بين عقله وعاطفته ستصدر عنه تصرّفات انفعالية ومواقف ارتجاليّة غير مدروسة، وسيكون أكثر عرضةً للاستغفال والابتزاز وغلبة العاطفة على الإنسان ستقوده إلى التعجل في اتّخاذ المواقف والتسرّع في إطلاق الأحكام، ولا شك ان في العجلة ندامة ورد عن الإمام علي(ع): (العجول مخطئ وإن مَلك، والمتأني مصيب وإن هلك).
هنالك ميزة خامسة تميّز جيل الشباب، وهي الشجاعة، والشجاعة تعدّ منطلق التغيير وعليها المعوّل في عملية النهوض بما تمثّله من عنفوان، وما تعكسه من روح مقدامة، ولولا الشجاعة لساد الركود والشلل في الحياة الإنسانية على أصعدتها كافّة، لكن يبقى أن نعي ونفهم جيداً معنى الشجاعة، فهي لا تعني التهوّر، ولا تلغي الحكمة والتروي، ومن هنا تبقى شجاعة الفكر والرأي أهم بكثير من شجاعة القوة، وفي ضوء هذا، فإنّ الشاب الشجاع هو الذي يملك السيطرة على نفسه وانفعالاته، وهو الذي يعي جيداً أنّ الشجاعة هي التي تُملي عليه أن يستمع إلى ذوي الرأي السديد وأصحاب الفكر والتجربة وأن لا يستقل بهم، وإنّما يسعى للاستنارة بأفكارهم، والاستماع إلى مشورتهم، وقد ابدع الشاعر حين قال:
الرأي قبل شجاعة الشجعان... هو أوّل وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرّة ... بلغت من العلياء كلّ مكان
والغريب أنّنا نلحظ في أوساط بعض الشباب تصرفات لا تخلو من غرابة، وذلك في سعيهم لإظهار رجوليتهم أو إيهام الآخرين بشجاعتهم وقوتهم، ومن هذه التصرفات إقدام البعض على تضخيم عضلات زنديه من خلال تمارين خاصة أو بواسطة حقنها ببعض الهورمونات، وذلك في محاولة لإيهام الآخرين أنّه يمتلك عضلات ضخمة ومفتولة! فان من الافضل للشباب ان يمتلكوا عضلات فكرية قبل كل شيء، وأن ينمّي كل شاب عقله بهورمونات العلم المفيد والنافع بدل أن ينشغل في كيفيّة تضخيم عضلاته، فالعلم النافع هو الذي يحميه من شر الآخرين، والعقل السليم هو الذي يعطيه معنى الرجولة وليس شكلها الظاهري فحسب.
من غير ما ذكرناه فإن ثمة ميزة سادسة نجدها حاضرة لدى الشباب، وهي الرغبة في اتخاذ القدوة في الحياة، والتماشي معها سلوكاً وخُلُقاً، وتقليدها في طريقة الكلام وحركات الجسد واللّباس، ولا ريب ان وجود القدوة الصالحة في حياة الشاب أمر في غاية الأهمية، فانه من العوامل المهمّة والمساعدة على تربية الشخص وتهذيبه واستلهامه للصفات الخيّرة والطيّبة في شخصيّة المقتدَى به، ولذا كان من الحريّ بنا أن نعتني بقضيّة القدوة ونعمل بجديّة على دراسة ذهنيّة هذا الجيل، ونتعرف على العناصر التي تجذبه في القدوة وتشدّه إليه، ونتبيّن ما هو المَثَل الأعلى المفضّل عنده؟
وينبغي على هذا الصعيد التأكيد على ضرورة ترشيد علاقة الشباب وغيرهم بالقدوة، لتكون مبنيّة على الارتباط به من خلال ما يحمله من عناصر رسالية مضيئة، وليس الارتباط به بطريقة شخصيّة شكليّة بحتة، وهذا ما يحمي العلاقة من الانزلاق إلى متاهات التقديس والمغالاة في الرموز القيادية.
ومن المهم التنبيه إلى أنّ الكثير من المزايا التي ذكرناها لكم ان لم يتم إخضاعها للعقل والحكمة فقد تؤثّر سلباً على توازن الشاب الفكري، وعلى صوابية آرائه ومواقفه، وعلى علاقاته بالآخرين، فالشاب المُعْجَب بشجاعته وقوة عضلاته، والمنشغل في جماله ونضارته، قد يدفعه الاستغراق في ذلك إلى الغفلة عن نفسه ونقائصها وما فيها من نقاط ضعف، فيعيش حالة من الزهو والنشوة الخاصة والانتفاخ في الشخصية، وقد يدفعه العجب بالنفس وما تمتلكها من طاقات حيوية إلى ارتكاب الأخطاء، فيقع أسير التكبر والتعجرف وينزلق إلى الاستخفاف بالآخر، وربما قاده ذلك إلى التهور وارتجال المواقف والكلمات، وقد عبّرت بعض الروايات عن هذه الحالة بأنّها حالة سكر، فقد روي عن أمير المؤمنين (ع): (أصناف السُّكْر أربعة: سُّكْر الشباب وسكر المال وسكر النوم وسكر الملك)، فكما أنّ المال والجاه (المُلْك) يخلقان لدى الكثيرين حالة من الزهو والنشوة التي تعمي صاحبها وربما تشل عقله، فإنّ للشباب أيضاً الزهو عينه، وكما أنّ النوم يفقد الإنسان وعيه فإنّ نشوة الشباب تسكر الإنسان وتُفقده التوازن العقلي، ومن هنا يكون من الضروري للشاب أن يصحو من هذه النشوة الخادعة، ويتنبّه إلى أنّ العقل هو زينة الإنسان وهو أساس القوة لديه، ولا قيمة للشجاعة التي تبتعد عن الحكمة، ويجدر بالشاب أن يعمل دائماً على تهذيب نفسه وإصلاحها وإيقاظها من كبوتها.
كما أن على الشاب أن يضع في حسبانه أنّ طاقة الشباب هذه على أهميتها وبشتى مزاياها المشار إليها لا تدوم ولا تستمر، فهي مرحلة من مراحل عمر الإنسان، وسوف تنتهي وتنقضي لذاتها، وإذا ما فُقدت فهي لن تُعوّض ولن تعود، عن أمير المؤمنين(ع): (شيئان لا يَعرِفُ فضلَهما إلاّ من فقدهما: الشباب والعافية)، وفي ضوء ذلك، فإنّ الشاب الناجح هو الذي يبادر إلى استثمار هذه المرحلة العمريّة المتفجرة عطاءً وحيوية قبل فوات الأوان، ففي الحديث عن رسول الله (ص) مخاطباً أمير المؤمنين (ع): (يا علي بادر بأربع قبل أربع، بشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل مماتك) وفق الله تعالى جميع الشباب الى ما فيه الخير والصلاح وجعلهم من اهل العلم والعمل الصالح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
برنامج مهلاً أيها الشاب-الحلقة الثالثة-الدورة
البرامجية61.
الزهراء (عليها السلام) أُسوة وقدوة