الزهراءُ..صوت الحق الخالد

2025/11/06

25
في زمنٍ كانَ الصوتُ فيه يُقاسُ
بالقوَّةِ لا بالحقّ، خرجتْ امرأةٌ من بيتِ النبوّةِ لتُعلّمَ
التاريخَ أنَّ البيانَ أبلغُ من السيف، وأنَّ الكلمةَ إذا خرجتْ من
قلبٍ طاهرٍ صادقٍ فهي رسالةٌ تُحاورُ الدهور. لم تكن الزهراءُ عليها
السلام امرأةً عاديّةً تُحدِّث الناسَ عن ألمها، بل كانت نبيهةَ
الخطابِ، مدركةً لأثرِ الكلمةِ في تشكيلِ الوعي، عارفةً أنَّ الصمتَ
في مواطنِ البيانِ عجز، وأنَّ القولَ في موضعِ الشهادةِ
جهاد.
حين سُلبت فدك، لم ترَ في الأرضِ
أرضًا، بل رأتْ في الموقفِ مِيزانًا للعدلِ الإلهيّ. نطقتْ بخطبتِها
لا لتسترجعَ أرضًا بل لتستنهضَ أمةً، جعلتْ من المسجدِ منبرَ وعيٍ،
ومن خطابِها وثيقةَ إعلامٍ خالدةٍ تقرأها العصورُ. لم تكن الكلماتُ
احتجاجًا سياسيًّا فحسب، بل صياغةً ذكيّةً لإعادةِ رسمِ الرأي العامّ،
وتحويلِ الصمتِ الشعبيّ إلى تساؤلٍ أخلاقيٍّ حيّ. كانتْ الزهراءُ
تُدركُ أنّ الجماهيرَ تُقادُ بالحجّةِ كما تُقادُ بالعاطفة، لذا
خاطبتِ العقولَ بالبُرهانِ، والقلوبَ بالأسى، وربطتِ الحاضرَ بالمبدأِ
الربّانيّ الذي لا يشيخ.
في كلّ جملةٍ من جُملِها كانت تُمارسُ
الإعلامَ بمعناه الأصيل؛ إعلامًا يُبنى على الصدقِ لا على الترويج،
وعلى الرسالةِ لا على المصلحة. فقد عرفتْ أنّ البلاغةَ حين تُسخَّرُ
للحقِّ تُصبحُ سلاحًا يعرّي الزيف، وأنّ المرأةَ المؤمنةَ قادرةٌ على
أنْ تكونَ منارةَ وعيٍ حين تُدركُ رسالتها في الدفاعِ عن الحقيقة. لقد
قدّمتْ للعالمِ أولَ نموذجٍ نسويٍّ للخطابِ الإعلاميِّ الملتزم،
فجمعتْ بينَ البيانِ والقداسة، وبينَ الموقفِ والبلاغة، حتى صارَ
صوتُها مدرسةً في صناعةِ الوعي، وأسلوبُها منارًا لكلِّ منْ أرادَ أنْ
يقولَ للباطلِ: لا.
الزهراءُ عليها السلام لم تكنْ
إعلاميّةً تُجيدُ الكلامَ فحسب، بل كانتْ «إعلامَ الرسالةِ» كلِّها،
تُعلّمنا أنّ الإعلامَ ليس منبرًا ولا كاميرا، بل صدقُ نيّةٍ ووضوحُ
موقف. كانتْ تَعلمُ أنّ الظلمَ يعيشُ ما دامَ الناسُ صامتين، وأنَّ
أولَ خطوةٍ لمواجهةِ الانحرافِ هي صناعةُ وعيٍ ناقدٍ لا يخافُ السؤال.
ولذلك كانتْ كلماتُها بذورًا نمتْ في ضميرِ المؤمنين، تُورِقُ كلَّما
حاولَ الطغيانُ أنْ يُطفِئَ النور.
سلامٌ على الزهراءِ وهي تُلقي بيانَها
الأخيرَ على مسامعِ التاريخ، سلامٌ على من حوّلتِ الوجعَ إلى موقفٍ،
والكلمةَ إلى رايةٍ لا تسقط.
أفياء الحسيني