أول الجراحات
2025/10/01
25

في مساءٍ موحشٍ من ليالي المدينة، وبين جدران بيتٍ كان ينبض برسالات السماء، خيّم الصمت على دار الزهراء فاطمة (عليها السلام)، وهي تودّع الحياة مثخنةً بجراح الظلم، وحرقة الفقد، ومرارة ما جرى بعد رحيل أبيها المصطفى (صلى الله عليه وآله)..

كانت الأنفاس الأخيرة للسيدة فاطمة (عليها السلام) تحمل أسرار ما جرى بعد مقتل النبي (صلى الله عليه وآله)، وما تعرضت له من كسرٍ للضلع، وسقوطٍ للجنين، وهجومٍ على دارها، وسلبٍ لإرثها، وسط صمتٍ مريبٍ خنق المدينة كلّها.

وبحسب الرواية الأولى، فإنّ شهادة الزهراء (عليها السلام) وقعت بعد أربعين يومًا من رحيل النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، في اليوم الثامن من شهر ربيع الآخر، حيث كانت قد ذابت ألمًا على ما رأت، وغصّ قلبها بفتنةٍ عاجلة لم تُمهل بيت الوحي، ولم تُبقِ لابنة النبي (عليها السلام) سوى الدموع والآهات.

كانت (عليها السلام) في تلك الأيام محاطةً بالحزن، تقضي أيامها باكية، تشتكي إلى قبر أبيها (صلى الله عليه وآله)، وتُسمع الحيطان كلماتها التي تشهد على الظلم الفادح: يا أبتاه..

صُبّت عليّ مصائبٌ لو أنّها

 صُبّت على الأيام صِرنَ لياليا

لم تكن كلماتها مجرد حسرات، بل كانت محكمةً تأريخية تسجل موقفها من الانحراف الذي أصاب الأمة.

وحين دنا الفراق، أوصت بعلها أمير المؤمنين (عليه السلام) بوصايا غريبة كغربتها في الحياة: أن تُدفن ليلًا، وأن يُخفى قبرها، وألّا يشهد أحدٌ من القوم ممّن ظلمها على تشييعها.. لقد أرادت (عليها السلام) أن يكون لرحيلها صوتُ احتجاجٍ يظل ممتدًا في الزمن، ليشهد على خذلان الأمة وتزييف الحق.

ولما انطفأ نورها، وعمّ الحزن بيت أمير المؤمنين (عليه السلام).. أُعدّت الجنازة في جوف الليل، فخرج الإمامُ (عليه السلام) حاملًا تابوتها، تتقدمه الحسنات وتلحقه الحسرات.. صلّى عليها ومعه قلةٌ من الأوفياء، ثم دفنها حيث أرادت، لتظل تربتها سرًّا يشهد على فداحة الخيانة، ولتكون الزهراء المظلومة (عليها السلام) عنوانًا حيًّا على انقسام الأمة بين وفاءٍ وخيانة.

فطوبى لمن واساها، ووقف مع حقّها، وندب مظلوميتها، وأحيا ليل وداعها بما يليق بوجع بيت النبوة، وأوجاع ضلعٍ مكسورٍ ما زال يُدمي ضمير الأمة.

 

  • الشيخ حسين التميمي
__________________________________________
نشرة الكفيل/نشرة أُسبوعيةٌ ثقافيةٌ (مجانية)، تتناولُ المعارفَ القُرآنيةَ، والعقائديةَ، والفِقهيةَ، والتاريخيةَ، والأخلاقيةَ، والتربويةَ، والاجتماعيةَ، والصحيةَ بأُسلوبٍ مبسّطٍ ومختصرٍ، تصدر عن العتبة العباسية المقدسة/ العدد 1040.
تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا