موت الأيديولوجيا!
2024/12/04
69
موت الأيديولوجيا!
تعني مفردة الايديولوجيا علم الأفكار والمعاني، أو هي نظام للأفكار المتداخلة؛ كالمعتقدات والآراء التي تؤمن بها جماعات محددة أو مجتمع معين، وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية، والأخلاقية، والدينية، والسياسية، والاقتصادية، وتبررها في الوقت نفسه، كما أنّها تعني القدرة على التنظير الفكري والعقائدي والفلسفي ضمن إطار تطوير وتنمية مختلف النظريات وفي مختلف المجالات العلمية المستحدثة، أو المطبقة عملياً لتتناسب مع المتغيرات والمستجدات والظواهر المختلفة الحاصلة على مستوى العالم.
وفي ظلِّ التطور الهائل والمتسارع للتقنية ولوسائل التواصل الاجتماعي، وضمن أطر الحروب الأيدلوجية والعقائدية المبنية على أسس علم النفس والتحليل السيكولوجي لطبيعة المجتمعات الإسلامية، فالجهات المعادية تسعى إلى تدمير الفرد من الداخل، وإسقاط جميع دفاعاته الذاتية والعقائدية والفكرية، والتشكيك بكلِّ متبنياته الأيدلوجية عبر استهداف منظومته القيمية الدينية والوطنية، كذلك تغيير نمط سلوكه الاقتصادي، وهذا مرتبط بطبيعة التحولات الاقتصادية للنظام الرأسمالي الغربي المتحول من مرحلة الرأسمال (الصناعي - الإنتاجي) إلى مرحلة الرأسمال (الخدمي - الربحي) السريع، أو ما يسمى: (اقتصاد الكازينوات)؛ الذي يؤدي إلى تحويل المجتمعات والدول من حالتها الصلبة المتماسكة المبنية على أسس الإنتاج -ومنها: (السرديات الكبرى؛ كالفلسفة الإسلامية والأديان، والفلسفات الأخرى، والدال والمدلول، والدول الوطنية، والجيوش الوطنية، ومفهوم المواطنة، والحدود الثابتة، والنمو الاقتصادي، وغيرها)، والتي يصعب على العوامل الخارجية التأثير فيها- إلى حالتها السائلة المرتكزة على: (تفعيل السرديات الصغرى والشعبوية، تعويم اللغة، فصل الدال عن المدلول، تنشيط الاستهلاك الاقتصادي، الصراعات المذهبية والقومية، التطرف والعنف الديني، مفهوم الفرد المتغير، الحدود العائمة، تصدير التفاهات للواجهات الإعلامية)، بحيث تسهل السيطرة على الشعوب المتجزئة والمتباينة، والتي لا تمتلك رؤية لحاضرها ومستقبلها، كما أنّها تتمتع بسيولة كبيرة تسمح لرأس المال بالتحرك بسهولة فيها تاركاً خلفه الأنماط السلوكية القائمة على ثقافة الاستهلاك المادي والثقافي، الأمر الذي أدى إلى عملية الانتقال بالسلوك الفردي -المبني على أسس: (الإنتاج، والاستخدام، والاحتفاظ)؛ كالأداوت، والقيم الأخلاقية، والموروث التاريخي، والتي كانت تورث سابقاً من الأجداد إلى الأبناء ثم إلى الأحفاد- إلى نمط سلوكي آخر معوْلَم يرتكز على ثقافة: (اشترِ، استخدم، ارمِ)؛ ومثالها الأدوات المستخدمة لِمرّة واحدة وتُرمى، وطالما أن الفرد يستهلك الأشياء المادية ويستخدمها ويرميها لمرة واحدة وهو مُشبع بروح الثقافة الاستهلاكية المادية والمعنوية الغربية بمغرياتها الدعائية والتسويقية المحترفة، فإنّه سوف يرمي أيضا قيمه، وأخلاقه، وموروثه التاريخي، وذكرياته وروابطه الاجتماعية، طالما أنّ هناك الجديد منها يأتي وافداً إلينا من الخارج.
إنّ هذه السيولة في السلوكيات الاجتماعية شجعت على ظهور الأفعال وردود الأفعال الشعبوية غير المنضبطة، وغير الخاضعة للضوابط الإجرائية والقانونية الصحيحة، وغير المبنية على أنماط فلسفية ومعرفية لها عمق تأريخي، وإنّما متأثرة بثقافة الاستهلاك المغايرة لطبيعة مجتمعاتنا، وسوف تساعد هذه المتغيرات على ظهور أجيال جديدة لا تعرف شيئاً أو ينتابها الضعف الفكري والعقائدي في خصوصياتها وتاريخها وثقافتها وقيمها! وستحل محلّها ثقافاتٌ شعبوية فرعية مُلوّنة منزوعة القيم والأهداف، تفكر بعقلية الجماعات المتشظية، والمصالح الفردية الخاصة، مع ضياع الهوية الأساسية في بناء المجتمعات الإنتاجية المبنية على الأفكار والمعتقدات والأيديولوجية المُنشِئة للحضارة الإسلامية عبر بُناها الفوقية المتمثلة بالدولة والمؤسسات العقائدية ومراكز تفكيرها، وبالتالي تبقى سوقاً مفتوحة لآلة الإنتاج الغربي الرأسمالي المادي والثقافي، مدفوعة بروح الرغبة الاستهلاكية لما هو جديد وعابر للحدود دون وضع حسابات لتفعيل آليات الإنتاج والاكتفاء الذاتي، والتي بدورها تعيدنا إلى عمليات التفاعل والصراع الحضاري العالمي المؤدي إلى صناعة التأريخ؛ لإنقاذ الموقف من الاندماج بالثقافات الأخرى، أو حدوث الموت الأيديولوجي والخروج من التاريخ.
✍️ د. محمد سامي المحنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرة الخميس/ نشرة أُسبوعيةٌ ثقافيةٌ (مجانية) تصدر عن العتبة العباسية المقدسة/ العدد 1012.
تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا