الثقافة الضائعة
2023/11/14
418

تشير الدراسات والإحصاءات العالمية إلى أن الأمية اضمحلّت إلى حد كبير في غالبية بلدان العالم، بعدما فُرض التعليم في تلك الدول، حتى إنّ غالبية الدول أنشأت مؤسسات وورشاً تعليمية لمحو الأمية لمن تجاوز سنّه التحصيل العلمي.. وهذا أمر جيد ومطلوب؛ لأن تطوّر البلدان وتقدّمها يعتمدان على مدى ثقافة المجتمع ووعيه، خاصة ونحن نشهد القفزة العلمية الهائلة في المجال التكنلوجي والمعلوماتي وما زالت تقفز قفزات لا تنتهي عند حدّ معيّن، ما دام الإنسان يُعمل عقله ويفكّر في تغيير واقعه نحو الأفضل والاستخدام الأسهل والأمثل، مما يوفّر جهداً كبيراً ويعطي انتاجاً وفيراً وبتقنية عالية جداً، فيتحسّن الكم والنوع..

لكن بالرغم من هذه الطفرة العلمية والتقنية التي أصبنا الكثير منها في حياتنا المهنية والاجتماعية، وأصبح مجتمعنا يتعامل مع هذه التطوّرات والتحوّلات كجزء لا يتجزأ من حياته.. إلا أنّنا فقدنا الكثير من ثقافتنا الدينية والقيمية، فمجتمعاتنا الإسلامية بدأت تبتعد رويداً رويداً عن مبادئها السامية وأخلاقها القويمة، وأخذت تتخلّق بأخلاق الغرب وتلبس ثوبه، وتنحو نحوه وتقلّده في كل حركة تأتي منه، مدّعين أنهم يتماشون مع التطوّر الحاصل، فبدأوا ينجرفون مع التيار الغربي الحامل للشوائب الأخلاقية والانفتاح غير المنضبط والتحرّر عن القيم والأخلاق..

فلو أن مجتمعاتنا غربلت ما يأتيها وأخذت ما ينفعها وسعت إلى تحصيل ما يرتقي بالإنسان محافظةً على قيمها ومبادئها وأخلاقها، لكانت اليوم تعيش عصراً ذهبياً لا مثيل له، كما هم فعلوا سابقاً حينما أخذوا من علومنا وتعلّموها وعكفوا على دراستها وتطويرها، متغافلين عمّا سواها، فوصلوا إلى ما هم عليه الآن! وبقينا نحن نجترّ أسفاً على تاريخنا الماضي ونتحسّر ألماً على جهود أجدادنا الذين لم يتوانوا عن بذل الجهود والطاقات والأموال، وتحمّل عناء السفر إلى أقصى مكان في سبيل تحصيل العلم، ووصلوا إلى أدق التفاصيل في حينها من الذرّة إلى المجرّة، وبأبسط الإمكانات.. ومع ذلك بقوا محافظين على ثقافتهم الدينية والأخلاقية، حتى إنّ بعضهم كان عالماً متبحراً في الدين.

فلم شبابنا اليوم خبتت عنده تلك الجذوة العلمية والثقافة الدينية، واستبدلها بالثقافة الغربية الغريبة عنا وعن ديننا، معتمداً على ما يرِده ويتفضّل عليه من الخارج، حتى أصبح متكاسلاً متّكلاً على غيره، نادباً حظه، متغنّياً بما وصل إليه الغرب، حالماً بالعيش مثلهم، منكباً ومستهلكاً وقته على وسائل التواصل والألعاب الإلكترونية حيناً وعلى صالات الألعاب والمسلسلات والبرامج غير النافعة حيناً آخر، مستعيضاً عن واقعه الحقيقي بالواقع الافتراضي ساقطاً بين براثنه، ومنشغلاً في أمور تافهة في كثير من الأحيان، ناسياً أنه سيُسأل غداً عن عمره فيما أفناه وشبابه فيما أبلاه، فهما رصيده الحقيقي الباقي في الدنيا والآخرة..
فلو أنك بادرت أحدهم في الشارع الإسلامي وسألته عن أمور دينه الابتلائية البسيطة لتلعثم وتهرّب من الإجابة، وقد يُجيبك البعض بامتعاض: وهل أنا عالم ديني؟، وكأنك سألته عن استنباط حكم من أدلته الشرعية!

أما المساجد والمجالس الدينية والفكرية والثقافية.. تكاد تخلو من الشباب إلا ما قلّ!
ولكن حينما تسأل كثيراً من شباب اليوم عن اللعبة الكذائية أو البرنامج الفلاني أو الفنان الكذائي أو اللّاعب الفلاني.. فسيجيبك بأدق التفاصيل التي تتعجّب على كيفية الإحاطة بتلك المعلومات والإلمام بها، في الوقت الذي تجده بعيداً عن ثقافته الإسلامية جاهلاً في أمور دينه..

وينتج عن هذا الابتعاد عن ثقافتنا الدينية والأخلاقية الانجذاب إلى ثقافات وأخلاقيات أخرى وما تحمله من شوائب وأدران تزكم الأنوف، وهذا ما بدأنا نشاهده في واقعنا من أمور دخيلة على مجتمعاتنا الإسلامية، مع الأخذ بالنظر أن العدو متربّص بنا ويسعى بكل جهده للإطاحة بأخلاقياتنا وديننا، فهو يزيّن ويؤطّر ما يصدّره من ثقافة وعلوم (لهوية) بأطر جذّابة ويجعلها سهلة المنال، مخدّراً بها العقول، ومروضاً بها النفوس..

فيا أيها الشباب الأعزّاء، لا تضيّعوا أحلى فترة من أعماركم في أمور أقل ما يُقال عنها إنها لا فائدة فيها، فالمستقبل بين أيديكم وهو أمانة في أعناقكم، وعليكم المعوّل في النهوض بواقع الأمة ورقيّها، واتركوا ما يشغلكم عن تحقيق أهدافكم، وانبذوا ما يخدّر عقولكم ويبعدكم عن واقعكم الحقيقي. خذوا ممّا يأتيكم ما ينفعكم، واسعوا إلى ما يطوّر قابلياتكم وينمّي عقولكم، فأنتم عماد الأمّة وازدهارها.

ارجعوا إلى ثقافتكم الأصيلة لتميّزوا بين الصحيح والسقيم، فهي عزّكم ومنار عقولكم، وبها تعمّرون الأوطان وتحققون الأحلام.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: نشرة الخميس (نشرة أسبوعية ثقافية تصدر عن قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة)/ العدد 957.
علي عبد الجواد
تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا