أبي أنت أيضاً تتحمل المسؤولية
2022/11/21
249

من السجن الذي استحققته بجرمي.. بعد أيام طويلة عددتها يوماً بيوم بحجر كلسي بدّد سواد جدرانه الداكنة..
ها أنا أخرج من دائرة تردّدي وأحمل قلمي لأكتب بيد متعبة أول رسالة إليك يا أبي..
من أين أبدأ حديثي معك؟! وأنا أعرف أني لن أتمكن من مشافهتك به.. سأترك القلم المليء بحبر الذكريات يبحر في ألبوم الماضي الذي يجتمع الآن في ذاكرتي باحتشاد تكاد كثافته تلغي كثرته.. وبوضوح أنقى من أنقى صورة شاهدتها على أفضل الشاشات..
لقد ساعدني تعبيري هذا على تحديد بداية الحديث، إنّه الوقت الذي أردت أن تكرِّمني به فوصلت كابل الستالايت إلى التلفاز الموجود في غرفتي التي كنت أنام فيها وحيداً..
أتذكر يا أبي تلك الليلة التي كنت أقلّب فيها القنوات الفضائية في ساعة متأخرة من الليل وهناك شاهدت ما لم أشاهده في حياتي! مما جذب ضعفي وأسرني في الليالي التالية..
ليتك يا أبي تحققت جيداً من سبب تراجعي في الدراسة بعد تلك الليلة..
ليتك يا أبي لم تكرّمني بهذا الغازي إلى غرفة نومي والذي كانت غلبته على عقلي وإرادتي بداية المشوار المظلم في حياتي..
نعم، كان بداية الرحلة السيئة لقد شاهدت على نفس تلك الشاشة عنوان موقع الانترنت فجرّتني إرادتي المغلوبة إلى محل الانترنت الذي كان يقع قرب مدرستي، وهناك كانت رفقتي الجديدة مع شبان لم يفكروا سوى بملذاتهم القصيرة..
ليتني لم أدخل ذلك المحل الذي خلا عن أي مراقب أو ناصح، لم تكن كلفة دخولي تقتصر على انشدادي إلى مواقع الكترونية سيئة أو صحبة تشاركني ذلك.. بل جرّتني تلك الصحبة إلى مواقع كثيرة لم تؤطرها شاشة.
أتذكَّر أول سيجارة ناولني إياها أحد أصحابي الجدد وما تعقّبها من سعال.. وأتذكر صحبتهم الساخرة مني والتي قررتُ بعدها أن أدخّن تلك السجائر، لأثبت لهم رجولتي التي استعجلتها في غير آنها..
أذكر يا أبي تلك الليلة حينما رجعت إلى المنزل وقد بدت آثار التعب والسهر ليالي على بادية وجهي، وأنك حينما رأيتني على تلك الحال اقتصرت في تعليقك قائلاً: (اذهب ونم جيداً يا بني، فمن الواضح تعبك)..
ليتك استنطقتني تلك الليلة.. ليتك قسوت عليّ.. ليتك منعتني عن الخروج مع تلك الشلة التي أصبحت فيها أسيراً ، لقد أدخلوني أسيراً، لا لا لا، بل أدخلت نفسي معهم في عالمهم، لكن الظروف شاءت أن يُقبض عليّ قبل التوغل فيه أكثر، لأرى نفسي بعد ذلك في هذا السجن الذي تعرّفت فيه على كتاب لم تربّني يا أبي على قراءته جيداً..
مع أن نظري كثيراً ما وقع عليه في بيتنا، لكني لا أذكر أني لمسته، لقد كنت أنظر إليه كتحفة جميلة مباركة، أما هنا يا أبي فإني نظرت إليه نظرة أخرى..
لقد نظرت إلى كتاب الله في سجني وأنا أبكي بمرارة..
لقد حملته بيدين مرتجفتين، خوفاً وخجلاً وحياءً، قرأته وكأني أرى كلماته تسبح في بحيرة دموعي..

وفجأة سكنت نفسي وهدأ قلبي وزال اضطرابي، حينما قرأت قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللّـهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ( الزمر: 53)..
وانفرجت أساريري حينما قرأت ذلك التعهد الإلهي الواضح: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء: 17)..
وأقامني قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} (البقرة: 222) للوصال مع الحبيب..
فوقفت بين يديه ممتثلاً قوله عزّ وجلّ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) لأحصّن نفسي بأقوى سلاح..
وحينما قرأت قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الإسراء: 23)، قرّرت كتابة رسالتي هذه إليك يا أبي..
فإني أقبّل يديك وأستمحيك عذراً على ما ألحقت بك من الأذى، لكن يا أبي أرجوك وأتوسل إليك اهتم جيداً بأخي، حصّنه جيدا والتفت إلى من يخالط، أعطه من وقتك أكثر، غذّه بعاطفتك وعنايتك حتى لا يكون الضحية الثانية.
إبنك المُحب.

___________________________________
المصدر: نشرة الخميس/ نشرة أسبوعية ثقافية تصدر عن قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة- العدد 850.
علي عبد الجواد

تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا