دور القدوة في حياتنا
2020/11/29
511

يأتي الحديث عن القدوة ومواصفاتها ودورها وأهميتها في إطار البحث عن واحدة من أبرز احتياجات الإنسان على مستوى الفرد والمجتمع، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ القدوة هي الصورة الأولى والكاملة التي تنطبع أمام أعين البشر، فيحاول كل شخص بما لديه من استعداد وقدرة الوصول إلى ذاك المقام العالي الذي يشاهده كمثال ونموذج وأسوة.

يبحث الإنسان عن القدوة عندما يشعر بأنَّ في داخله شيئاً نحو إكمال شخصيته، وقد تكون القدوة شخصاً ما، وقد تكون فكرة معينة وقد تكون عقيدة، بغض النظر عما إذا كان هذا الشخص وهذه الفكرة والعقيدة أمراً مطلوباً أو غير مطلوب، فإن كانت القدوة تجسد المثل العليا، وتحمل من الصفات الأخلاقية والإنسانية كان المقتدي يتوق إلى الرفعة والرقي على المستوى الأخلاقي والإنساني، وإن كانت مثلاً أعلى من جهة السلطة والرئاسة والجاه، كان المقتدي يتوق إلى تلك الجوانب أيضاًً، لذلك يمكن القول أن القدوة تتطور وتتحول عند الإنسان بناءاً على البيئة المحيطة التي كانت السبب الحقيقي في وجود مجموعة من القيم التي يرنو الإنسان للوصول إليها.

تتشكل القدوة في أجواء القيم مهما كان نوع هذه القيم، وتساهم في موضوع التربية والوصول إلى الكمال، وتساعد في عملية إقناع الآخرين بالأفكار والآراء وما شابه ذلك، وبحث القدوة بحث واسع ذو جوانب متعددة، يمكن أن يطال دورها وأهميتها وخصائصها، وما لها من امتداد في الفكر الديني، وقد يجري البحث عنها بما لها من آثار على مستوى ثقافة التغرب، والابتعاد عن القيم وبناء الشخصية الإنسانية.
لم تترك القدوة الإنسان وحيداً، فما أن ينفتح وعيه منذ سنواته الأولى حتى يجد أمامه قدوة وهذه القدوة تتمثل بالوالدين، فينشد إليها ويتأثر بها، ويعتقد أنَّها أفضل ما يراه وما يبحث عنه، ومن خلال هذه القدوة تتشكل الصور الأولى للطفل عن العالم، فيراه هانئاً منسجماً أو قاسياً مضطرباً، لذا توافقت كل الدراسات التربوية والنفسية على أهمية وجود الأسرة بالنسبة إلى الإنسان، في حين تقدم الإسلام خطوة إضافية في هذا المجال عندما أكد على ربط وجود هذه الأسرة بشروط اختيار الزوجين، كما في الحديث النبوي الشريف قوله(ص وآله): «تخيَّروا لنطفكم...»، «وإذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه».

ولا يختلف الباحثون حول أهمية الأسرة، وأهمية ما يجري فيها وتأثيراته القوية على شخصية الإنسان اللاحقة، لكن قدوة الوالدين المهمة جداً بالنسبة للطفل لا تبقى غالباً على حالها في مراحل العمر اللاحقة، فمن المؤكد أنَّ الإنسان عندما يصبح أكبر سناً وأكثر تجربة وأوسع اطلاعاً ستتغير نظرته إلى القدوة، وإلى شروطها ومواصفاتها التي كان يتطلع إليها، فالطفل الذي يتخذ والديه أول قدوة له في سنوات عمره الأولى سينتقل لاحقاً إلى قدوة أخرى قد تكون معلم المدرسة أو رفيق الصف، أو أي شخصية رياضية أو سياسية وفقاً للبيئة التي سيعيش فيها أو يتأثر بها، كما أنَّ هذا الاختيار قد يتغير أيضاًً في مراحل النضج الأخرى، بحيث تصبح القدوة فكرة أو عقيدة، أو حزباً ينتمي إليه الإنسان، ما يزيد من أهمية القدوة ومن ضرورة متابعة تحولاتها وتأثيراتها المختلفة على الإنسان في مراحل عمره المختلفة، وفي أدواره المتعددة في المجتمع مع الالتفات إلى أهمية هذه القدوة وإلى أهمية تأثيراتها بحسب كل مرحلة من مراحل العمر، ولذا لا يمكن أن يقتصر الاهتمام بالقدوة كما يحصل عادة على البعد التربوي فقط على الرغم من أهمية هذا البعد خصوصاً في طفولة الإنسان، بل يفترض أن يكون هذا الاهتمام أكثر اتساعاً وشمولاً من خلال الدراسات الدينية والسياسية والاجتماعية والفلسفية والثقافية والانتروبولوجية التي يمكن أن تقدم زوايا نظر مختلفة ومهمة ومتعددة لدور القدوة وتأثيراتها على مستوى بناء الفرد التربوي، وعلى مستوى تشكيل اتجاهاته الفكرية والاجتماعية والسياسية وصولاً إلى أدوارها المحتملة على بنية المجتمع وتأثيرها على مصادر قوته وتماسكه.

المراهقة والقدوة

يختلف ما اصطلح على تسميته مرحلة المراهقة عما سبقها من مراحل؛ لأسباب معروفة في الأدبيات التربوية والنفسية، خاصة ما يتعلق بالأدوار الجديدة التي يتوقعها المجتمع من المراهق والتي يتوقعها المراهق من نفسه، إنَّ المهم هنا هو كيف سيتعامل المجتمع مع هذه المرحلة، وكيف سيقبل التغيرات التي يمر بها الإنسان في هذه المرحلة، لأنَّنا نعتقد أنَّ المشكلة ليست في التغيرات الفيزيولوجية نفسها، بل في استعداد المجتمع وفي عدم استعداده لتوفير الفرص لدمج المراهق من دون أي تأخير أو تردد.

عندما يخرج المراهق من نطاق العائلة إلى نطاق المجتمع يجد أمامه خيارات كثيرة، فالقدوة التربوية تتحول تدريجياً من الوالدين إلى شخصيات أخرى، وقد يتساءل بعضنا: لماذا يختار المراهق قدوة له، شخصاً لم يلتق به، ولم يسبق أن تحدث إليه مباشرة؟ ولماذا يتعلق بشخص موجود في بلد آخر؟ فقد يذهب إلى قدوة سياسية أو دينية أو فنية، أو رياضية، ما يجعل القول بمواصفات نهائية للقدوة في مرحلة المراهقة أمراً صعباً، فقد يعد بعضهم أنَّ الإسلام هو القدوة التي يبحث عنها، فيحاول أن يقتدي بالرسول(ص وآله) وبسواه من الأئمة(عليهم السلام) والمصلحين، وقد يعتبر آخر أنَّ فكرة العدالة أو مواجهة الظلم أو الاحتلال التي تنادي بها حركات سياسية أو اجتماعية هي القدوة، فيقلد رموز وقادة تلك الحركات.

ما يمكن ملاحظته أيضاًً أنَّ الشخص نفسه قد يكون قدوة في جوانب مختلفة من شخصيته، فهذا يتخذه قدوة بسبب وسامته، وآخر لشجاعته، وثالث لدماثة أخلاقه، أو لأفكاره ونظرياته، وهكذا، ونادراً ما تجتمع مواصفات عدة في شخص واحد، وهو ما يطلق عليه «الكاريزما» التي تلخص الحضور الطاغي والمحبب لهذه الشخصية في جوانبها كافة، أما الجانب الآخر لهذه المسألة الذي لا يقل خطورة وأهمية هو ما نسميه «القداسة» التي تسبغ على القدوة التي يتخذها الإنسان نموذجاً له، بحيث يفقد في هذه الحالة أي حس نقدي تجاهها، بحيث لا يرى لتلك القدوة أي خطأ، ولا يرى في سلوكها أي نقص.

القدوة السلبية

تتشكل هذه القدوة غالباً من خلال البيئة التي تحيط بالشاب، ومن خلال القيم التي ترتبط بهذه البيئة، فمن المعلوم إنَّ كل بيئة مهما كان نوعها سياسية أو دينية أو فنية أو رياضية تنتج غالباً قيماً خاصة بها، وتتحول هذه القيم إلى قدوة يلتزم بها أعضاء هذه البيئة أو المؤيدين لها.
بهذا المعنى قد يكون للمراهق أكثر من قدوة في وقت واحد، ومن الملاحظ أيضاًً في مجال الدراسات ذات الصلة بالمراهقين والشباب في هذه المرحلة تأثرهم برفاقهم وبمن حولهم، لذا قد يلتحق المراهق بنموذج سلبي في السلوك وفي التفكير وفي العلاقات مع نفسه ومع الآخرين، ومن المؤكد أنَّ أغلب حالات الانحراف مثل الإدمان والجنوح وحتى السرقة وسواها لا تتم إلا في بيئة جماعية، بمعنى أنَّ الانحراف أو تعاطي المخدرات لا يمكن تفسيره من خلال البعد الفردي فقط، بل من خلال مشكلة نفسية أو عائلية، وينبغي الالتفات أيضاًً إلى بيئة الرفاق التي يمضي معها الشاب أوقات فراغه وتسليته بعيداً عن رقابة الأهل أو مؤسسات المجتمع الأخرى، فالانحراف هو حالة جماعية، وهو نتيجة لقدوة سلبية تشكلت في بيئة جماعية من الرفاق الذين يشجعون على تعاطي المخدرات أو على التدخين أو على السهر بعيداً عن المنزل، أو على ترك المدرسة والذهاب معاً إلى أماكن اللهو أو التسلية وسواها، فالقدوة السلبية هي نتاج بيئة جماعية، وهذا يفترض في كثير من الأحيان أن نبدأ بتغيير هذه البيئة، وتفكيك القيم والقدوة المرتبطة بها قبل تغيير سلوك الأفراد أنفسهم.

عندما يكون البيت قدوة سلبية كإن يكون فيه مشاكل بين الزوجين، أو اضطراب في العلاقات العائلية، سيهرب المراهق إلى قدوة أخرى قد تكون غالباً قدوة سلبية؛ لأنَّها ستكون مجرد بديل من دون التدقيق في محتوى هذا البديل إذا كان إيجابياً أو سلبياً، كما أنَّ الشاب أو المراهق قد لا يملك القدرة أو حتى الاستعداد للتمييز بين السلبي والإيجابي في القدوة إذا كان الهدف هو الهرب من قدوة عائلية لذا هو يحتاج دائماً إلى الاهتمام والمتابعة والرعاية.

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: برنامج المثل الأعلى- الحلقة الأولى.

 

 


تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا