الإحسان الى الوالدين
2020/06/09
519

في عصرنا الزاخر بالوقائع والمستجدّات، اللاهث وراء طوفان المادّيّات، الراكض صوبة قناة الفضاء المذهلات، الوثّاب حيال وسائل الاتصال المتعدّدات؛ يدور كلّ في فلكه ومداره، وينشغل كلّ بشأنه وتسياره، وفي هذا الخضمّ المتلاطم، والعباب المتراكم، تبرز قضية أيتها الاخوات – ويا لها من قضية – لو أنفق الإنسان فيها عمره لم يذهب سدًى وهدراً، ولو كابد حياته من أجلها لصار أعزّ نفراً، وأنفذ بصيرةً وأحدّ بصراً؛ بل أزكى خبراً وآرج خبراً.

قضية غفل عنها فئامٌ فلزم التذكير بها كلّ آنٍ، قضية عظيمة قضية “برّ الوالدين” والإحسان إليهما أمواتاً وأحياءً، قربةً ووفاءً، ذخراً خالداً وجزاءً.

عليكم ببرّ الوالدين فإنها ... وصية مولانا وليس له ضدّ

وقارن شكر الوالدين بشكره... له المنّ والآلاء والحمد والمجد

وإذا كانت النفوس أخواتي مجبولةً على حبّ من أحسن إليها؛ فإن أعظم الناس إحساناً، وأحقّهم برّاً وحناناً: الوالدان الكريمان، فبرّ الوالدين فريضة لازمة، وفضيلة جازمة، وصفة كم هي حازمة، وجوبها حتم مؤكّد، وأداؤها عزم موطّد، لا عذر لأحدٍ في جفائها، أو التهاون في إبدائها، فالدين والنقل، والشرع والعقل، والمروءة والنّبل، والرحمة والفضل، وردّ الجميل والإنسانيّة، وبدائع الخصال السّنيّة، والخلال الكريمة، والشمائل الشريفة، روافد ودلائل للقيام على المراد المرغوب، وأدائها على الوجه المطلوب.

ولقد تكرّرت الوصية في كتاب الله تعالى في حق الوالديْن في مواضع عديدة، وآياتٍ مجيدةٍ، قال تعالى: (ووصّيْنا الْإنْسان بوالديْه إحْساناً). 

وبرّ الوالدين منهج ربانيّ تمثّله الأنبياء والمرسلون، وهرع إلى شرفه الكرام والصالحون، يقول تعالى عن عيسى (عليه السلام): (وبرّاً بوالدتي ولمْ يجْعلْني جبّاراً شقيّاً) وعن يحيى بن زكريا (عليهما السلام): (وبرّاً بوالديه ولمْ يكن جبّاراً عصيّاً).

والدعاء لهما أحياءً وأمواتاً دأب المؤمنين المتقين، يقول تعالى عن نوحٍ – عليه السلام -: (ربّ اغْفرْ لي ولوالديَّ ولمنْ دخل بيْتي مؤْمناً وللْمؤْمنين والْمؤْمنات) وقال عن إبراهيم (عليه السلام): (ربّنا اغْفرْ لي ولوالديّ وللْمؤْمنين يوْم يقوم الْحساب).

إن للوالدين حقّاً علينا ... بعد حقّ الإله في الاحترام

أولدانا وربّيانا صغاراً ... فاستحقّا نهاية الإكرام

نعم.. إنهما بهجة الحياة وزينتها، وأملها الباسم وقيمتها، بأنسهما تتبدّد الكلوم، وبعطفهما تتقشّع الغيوم، وبفيض دعائهما المحن أنّى تدوم؟!

وفي مشكاة النبوة المحمدية يأتي برّ الوالدين قريناً للصلاة عمود الإسلام، ومتقدّماً على الجهاد ذروة سنام الإسلام، ففاق برّ الوالدين الجهاد والدخول في معامع القتال والجلاد؛ لأن برّهما يجمع من المحاسن أرفعها، ومن المحابّ أنفعها.

هذان من ليس بعد الله غيرهما ... يرجى رضاه ولا يعصى ببهتان

فلا تقل لهما قولاً يسوؤهما ... واخفض جناحك من ذلٍّ وعرفان

ولقد قرن الله –عز وجل– حقّ الوالدين بحقّه سبحانه، وما ذلك إلا لعظم حقّهما، وكريم فضلهما، قال تعالى: (واعْبدوا اللّه ولا تشْركوا به شيْئاً وبالْوالديْن إحْساناً).

وإن برّ الوالدين ليتأكّد شهوده، ويعظم وروده، وتتفق عن محض البر وروده عند المرض والسّقم، ودواعي الإدناف والهرم؛ بل إنه يستمرّ حتى بعد الوفاة؛ ابتغاء نيل أعلى الدرجات.

روى رجل من الأنصار: أنه سال رسول الله "ص وآله": يا رسول الله! هل بقي من برّ أبويَّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرّحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما".

فإن برّ الوالدين حقّ أصيل، وفرض أثيل، لا معدى عنه ولا تسويف ولا تسويل، حقيق في المسرّات والملمّات، وفي جميع مراحل الحياة، وإن عاتباك لإصلاحك استنذاراً، فكم نحلوك صادق الدعاء بالتوفيق سرّاً وجهاراً.

برّهما واجب، والإحسان إليهما متعيّن، (وإنْ جاهداك على أنْ تشْرك بي ما ليْس لك به علْم فلا تطعْهما وصاحبْهما في الدّنْيا معْروفاً)

إن جاهداك على شركٍ فقل لهما... خيراً، ولا طاعة تأتي بعصيان

واطلب من الله أن يرأف بحالهما... وأن يزيد عطاءً دون نقصان

وأن يقود إلى الإسلام قلبهما... وأن يكافئ في جودٍ وإحسان

إن أعظم ما ينشده المسلم: رضا ربّه  جل وعلا ، ورضا الإله تعالى في رضاهما؛ أوسعهما برّاً ولا تنهرهما... وامنحهما قولاً كريماً واشكر..
واخفض جناحك رحمةً لكليهما... تمهد لنفسك لو فعلت وتذخر

فليعتبر أخواتي من يجفو أمّه وأباه اتباعاً لأنانيّته وهواه، وليخفض لهما جناح الذّل والانعطاف، وعظيم البرّ والإتحاف.

وليكن منكم بحسبان: فأن أشدّ الأمور وقعاً على النفوس: فقد الأقربين والمحبّين، ويعظم الخطب حين يكون الفقد للوالدين أو أحدهما.

فإن فقد الوالدين مصاب جدّ جللٍ، ورزء أشدّ وقعاً من الأسل، يهدم الرّكن الوثيق، ويصوّح الروض الوريق، ويرضّ الفؤاد والأكباد، ويبعث على اللّوعة والأسى والسهاد، وما العزاء إلا جميل الصبر وصادق الاحتساب، ومرتقب الأجر والثواب، من الكريم الوهّاب.

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: برنامج قناديل وضاءة-الحلقة السادسة-الدورة البرامجية56.


 

تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا