الثقة
2020/05/19
471

الثقة هي عبارة عن علاقة تربط بين اثنين، بحيث لا يشك الشخص بنوايا وأخلاق الشخص الآخر، وهي توقع النوايا الجيدة بناءً على معرفة الشخص بالطرف الآخر، وهي أمر مؤجل بحيث أن نتائجها ستظهر بالمستقبل.

أما علم النفس فقد عرفها على أنها مدى تصديق الشخص وإيمانه بالشخص الآخر، وفي حال تم حدوث فشل في الثقة بين الأشخاص بناءً على عدم مقدرة فهذا لن يزعزعها بعكس ما يتم بسبب قلة الأمانة أو عدم المصداقية، والثقة ليست بالشيء المادي الذي يمكن قياسه بل هي تقاس مع الزمن والمواقف والتصرفات، وللثقة معنى أخلاقي وتصرف غير مباشر.

والسؤال الذي سنطرحه في هذا المحور: من أين تبدأ الثقة؟ وبمن نثق؟ وهل الثقة بالنفس كافية للخروج من المآزق أو نيل المقصود؟

بالطبع لا يمكن أن يتخذ الإنسان من النفس مصدرا للتحرك، فكم من امرئٍ وقع في شباك الثقة بنفسه فأدى به الحال إلى الغرور، والتهور، والتعجرف، والاستهزاء بالآخر، وعدم التثبت من المعطيات، لتكون النتائج في كل ذلك وبالاً على صاحبها.

وكم من واثق بماله فيدفعه هذا الشعور إلى التعالي، والظلم، والخسران وغيرها من مجالات الحياة التي تختلف فيها موارد التثبت والوثاقة.

اما المقياس والضابطة فهو التفريق بين الأشياء الثابتة والمتغيرة، فالمال متغير، والسلطان متغير والصحة والعافية متغيرة، والصداقة متغيرة، والعلاقة الاجتماعية متغيرة، سواء أكانت فردية أم أسرية، لأن الثابت فيها هو ما بني على الإيمان بالله (عز وجل)، فلو كانت هذه الأمور قابلة للثبات لما وضع الله تعالى أحكاماً وتشريعات ابتداءً من العلاقة الزوجية ثم الوالدية، ثم القرابية، ثم العشائرية، ثم العلاقة داخل المجتمع كالجوار، والصداقة، وجلسات التحاور، والتذاكر، وعقود المعاملات القائمة بين الناس، كلها وضع الله لها تشريعاتها لأنها من المتغيرات.

ولكونها كذلك ايتها الاخوات صار الحكم الشرعي هو الثابت والضابط والمقياس الذي يعود إليه الناس لتعديل مسارهم الحياتي، وأسلوبهم المعاملاتي سواء الفردي أو الجماعي.

وفي خضم هذه المفاهيم الحياتية تبقى مدرسة عاشوراء مصدراً للمعرفة والتعلم ونشر ثقافة الحياة، إذ لا يخفى على أهل المعرفة ما للحرب من أجواء نفسية معقدة، وما لها من آثار خطيرة لا يسع البحث إيرادها، مع ما تحمل واقعة كربلاء من خصوصية خاصة من حيث الأجواء العسكرية التي أحاطت بسيد شباب أهل الجنة عليه السلام، وهو موقن أن هؤلاء الذين تجمعوا من حوله عازمون على قتله، وقتل أبنائه وأطفاله وأخوته وأصحابه وتسليب بنات الرسالة المحمدية.
نعم مستمعاتي إنها أجواء انفردت بها واقعة الطف على مر العصور، فماذا أعد لها سيد الشهداء عليه السلام من عدة الثقة؟! وبمن استوثق؟.

إنّ جواب السؤال اصبح معروفا لكثير من أهل المعرفة، إلا أن الفارق في بيانه هو أن الإمام الحسين عليه السلام ابتدأ بعامل الثقة في أول عدته لهذه الحرب الطاحنة، فكيف هي الثقة عنده؟

فهل وثق بالمال، أم بالأهل، أم بالأصحاب، أم بصحته، أم بمهارته في القتال وإتقانه فنون الفروسية فهو ابن علي بن أبي طالب عليه السلام، فضلاً عن انه إمام معصوم مما يستلزم إحرازه لجميع الكمالات التي يحتج بها على المكلف يوم القيامة.

 ومن البديهي أن أهل بيته هم خير أهل بيت وأوصل، وأن أصحابه أوفى الأصحاب وأبرّهم إلا أن السؤال ماذا أعد له ولهم في هذه الحرب وبماذا استوثق؟ 
ولماذا مستمعاتي  كانت ثقة الإمام الحسين (عليه السلام) بالله تعالى دون غيره من الولد والأهل والأصحاب مع مالهم من الخصوصية الخاصة والتفرد في منحهم الثقة لسيد الشهداء عليه السلام؟ ثم بماذا تختلف ثقة الإمام الحسين عليه السلام بالله تعالى عن ثقتنا به جلت قدرته؟

والجواب ايتها المستمعات هو التوكل؛ فالتوكل عند الإمام الحسين عليه السلام هو الثقة بالله وحده لا شيء معه، والتوكل عندنا هو التعلق بالأسباب بالولد والأهل والأقارب والأصحاب والعشيرة والمال وغيرها كثير.. وما أكثرها!

 هذه الأسباب هي سواء عند سيد الشهداء (عليه السلام) في وجودها وفقدها وجلائها وخفائها، ولا يبقى منها سوى الغريزة الإنسانية المتمثلة بالأبوة والأخوة والصحبة، ولذا بكى عليهم أشد البكاء لأنه مثال الإنسانية وعنوان وجودها.

مستمعتي الكريمة إن التواصل مع هذه الروابط طريق لدوام الإنسانية وليس لغرض الإتكال عليها والاستغناء بها، فهاهم قد رحلوا عنه وبقي وحيداً فعلى من يعتمد بعدهم، وبمن كان يعتمد قبلهم؟ إنّه الله تعالى.

فنجده (عليه الصلاة والسلام) يظهر لنا في مدرسة عاشوراء عامل الثقة بالله ودوره في الهزيمة والنصر في جميع مجالات الحياة، فيعيد بيانه في دعائه مرتين؛ فيقول: «اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمرٍ نزل بين ثقة وعدة». 

إذن أيتها الاخوات إن ميزان الثقة في النفس وفي الآخر هو الله سبحانه وتعالى فمتى ما عظم إيماننا بالله وأيقنا بأنه مسبب الأسباب ومهيئ السبل وبيده مقادير الحياة والموت، والغنى والفقر، والصحة والمرض، عرفنا كيف نتعامل مع أنفسنا ومع من حولنا، وعرفنا كيف نبني الحياة ونحدد المستقبل؛ لأن المستقبل خاضع للمقدمات، ومداره مدار التوكل على الله تعالى.

وأيقنا أن الفشل والنجاح، والهزيمة والنصر، تنبع من معرفتنا بأنفسنا، ومواطن ضعفها وقوتها، ومحاسنها ومساوئها، وطرق تقويمها، ففاقد الشيء لا يعطيه لغيره وفاقد الإيمان بالله لا يعطي الثقة لنفسه ولا لأحد من حوله، ومصيره دائما الهزيمة والفشل، ولذا نراه مضطرباً ومتردداً يحيطه الخوف ويؤرّقه الحذر، وما ذاك إلاّ لاختلال التوكل على الله تعالى.

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: برنامج وهج الأمل- الحلقة العاشرة- الدورة البرامجية44.

 

 

تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا