الخلاف في حياتنا مشكلة واقعية، لا
يمكن أن نهرب من حقيقته ببعض الكلمات الطيبة، فالحقيقة إن الخلاف
يعد من أعقد المشاكل التي تعاصر البشرية، منذ أول يوم ظهر نبينا
آدم(ع)، وحتى هذه اللحظة، فلا مهرب منه أبداً، هذا لا يعني أن
نستسلم له خاضعين منكسي رؤوسنا لا نملك حولاً ولا قدرة! إن إدارة
الحوار بشكل رصين، وأسلوب ذكي خطوة في غاية الاهمية، فاغلب مشاكلنا
تأتي من الضعف الاداري، اذ لا نتمكن من إدارة المشكلة أو الخلاف،
ولا نملك قاعدة مسبقة نتعامل على ضوئها تجاه أي مشكلة تطرأ علينا،
ولعل بعضنا لم يفكر في ذلك إطلاقاً، والبعض الآخر لم يسمع يوماً
شيئاً اسمه قواعد إدارة المشكلة أو الخلاف، لأسباب عدة لا يمكننا
حصرها الآن، لكن دعونا نتعرف على تلك القواعد الرئيسة في إدارة
الخلاف.
القاعدة الاولى: معرفة أساس
الخلاف
جوهرة القواعد وأفضلها وأشملها هذه
القاعدة، إذ التعرف على سبب الخلاف وأساسه في غاية الأهمية،
فالمشاكل التي تحدث بيننا لا يمكن حصرها، ولا سيما في البلدان
العربية والشرقية، فلا تجد شخصاً يخلو من خلاف أو مشكلة ما، فتأمل
حجم ذلك وخطره، بيدَ ان الحل ليس صعباً وليس سهلاً جداً، إن أغلب
المشاكل التي تحدث بيننا تنتج عن غياب الاساس والركيزة التي حصل
عليها الخلاف، فقد نبحث عن سبب الخلاف المقنع فلا نجده، والكل
يستغرب من هذه النتيجة وهذا التصريح، نعم، يحق لكم ان تتعجبوا من أن
بعض مشاكلنا لا يوجد لها واقع! هذه المشاكل والخلافات التي تحدث
تنجم عن الامزجة، فأنت مزاجك حاد والآخر قد يكون مزاجه حاداً ايضاً،
فتصطدم تلك الامزجة وينتج لنا خليط اسمه مشكلة أو خلاف، والدليل على
ذلك أننا نتراضى ونتصالح بعد دقائق قليلة، أو يوم او بعض يوم! وليس
ذلك عزيزاً ولا غريباً، فثمة ضوضاء تحيط بالمسألة، فليتذكر كل واحد
منا اقرب مشكلة حدثت له، هل يمكنه تشخيص سببها الدقيق بعيداً عن
المزاج والتوتر الذي حصل؟ لا تجد أي سببٍ صالحٍ لأن يكون علة للخلاف
أو المشكلة، وهذا ليس حكماً جزافياً، لكن تأمل ذلك بنفسك واعْلِمْها
النتيجة! فعندما نجد تلك النتيجة التي تقول: «ايها الناس لا أساس
للمشكلة التي حدثت هي مجرد اثارة العواطف وصعود حدة التوتر بينكم»
نفرح كثيراً، ويصبح من السهل بهذه القاعدة أن نتجاوز الكثير من
خلافاتنا ومشاكلنا، خذ مثلاً: شخص طَلَبَت منه زوجته أن يجلب لها
حاجة ما، وعندما رجع الى البيت لم يأتِ بتلك الحاجة، هنا ستحدث
مشكلة او خلاف، الزوجة تنزعج من المسألة بشكل كبير والزوج يحاول أن
يبرر ما حدث، هي لا تسمعه؛ لأنها غاضبة ومتوترة، وهو لا يقبل سماع
تلك الكلمات ولا يريد أن يعلو صوتها عليه، ترتفع عنده الحدة
والمزاجية ويصعد التوتر، فيصطدم كل من توتر الزوج وتوتر الزوجة،
فينتج لنا خلاف لا أساس له، فلو تصرف الزوج بطريقة ذكية يمتص غضبها
ويشرح لها الموضوع ويفهمها جيداً، لكانت الحالة سليمة بلا خلاف، شرط
أن تتقبل منه ذلك والا أوجد طرقاً مناسبة تماماً لحالتها، ومن
جانبها أيضاً أن تعمل كما يعمل الرجل، فأحيانا لا تُعجب الزوج بعض
الأطعمة، فعلى الزوجة أن تكون على حذر عند هذه المسألة؛ لأنها تكره
أن يُعيب أحد طبخها، أو أي عمل تؤديه، بل من طبعها حب المدح لعملها،
والزوج لا يريد أن يكذب مشاعره ولا يهدئ من روعه، إنما عند الجوع
تغلق الحِكَمُ والمواعظُ، فينتج توتر منه وتوتر منها ويخلق لنا
مشكلة.
إن تحديد السبب الذي يحصل بسببه
الخلاف هو جوهر القضية ولبها، فمن لا يحدد السبب لا يمكنه تحديد
المشكلة ولا حجمها ولا يعلم بأمدها، ولا يعلم نهايتها، معرفة السبب
تجعلنا أكثر دراية وواقعية أمام المشكلة، فإذا عرفناه وصلنا الى
مرحلة التقدير، فهل من المناسب أن يحدث الخلاف، ما هو بحجم ذلك
السبب الذي ولَّد بيننا الخلاف؟ هذا ما ستعرفه في القاعدة
الثانية.
القاعدة
الثانية: تقدير سبب الخلاف
القضايا التي تنشأ بسببها
الخلافات كثيرة، تتنوع حسب القضايا أهمية وتميزاً، فالخطوة الثانية
التي يطلبها الفن الاداري للخلاف، أن نُقيِّم سبب المشكلة ونتأمله،
هل السبب كفيلٌ بأن يجعلني مختلفاً مع زيد ام لا؟ فتشخيص السبب
المرحلة الاولى، وتقديره من حيث الاهمية والقيمة، شيء ثانٍ ومهم في
نفس الوقت، فإن قيمة السبب لها التأثير في رسم حجم المشكلة، وكثيراً
ما نسمع من بعض الاجداد او الاشخاص الذين يتمتعون بالخبرة الكافية
في الحياة كلمات نحو: «بني هل السبب يتطلب هذا الخلاف الحاد بينك
وبين صديقك؟ » وغيرها من الكلمات، فان بعض الخلافات التي تنشأ، تقوم
على سبب بسيط غير مهم، كأن يُسْمِعه كلمة قبيحة، او شتم شخصية معجب
بها، وغيرها، فمثل هذه الاسباب لا تستحق أن يقام عليها الخلاف بين
الطرفين، فلو أدرك جيداً كل طرف سبب الخلاف، وتركوا التعصب جانباً
لما حصل بينهم الخلاف أو زرعت بينهم المشكلة، فإن تفاهة الأسباب لا
تقوي المواقف وتجعلها في أزمة حادة، إلا أن الكثير لا ينظرون الى
المواقف وأسبابها، بل الى المزاجية وكيف اتناوله وأُنْزِل من قيمته
او آخذ حقه وهو لا يعلم، أو أتكلم عليه بالغيب، وهكذا تستمر حلقة
الاسباب، دون أن نجد سبباً معتداً به يجعل كلاً من الطرفين له الحق
في ترك أحدهم الاخر، وكم اعرف اشخاصاً لأجل مزاح هزيل تركوا خيراً
كثيراً بل وقعوا في محرمات جِسَام، أفهل يعقل أن يترك شخص والده
سنوات! دون أن يكلمه كلمة واحدة بسبب اتهامه بالكذب يوماً ما؟ لعل
الأب توهم او نُقلت اليه المعلومة في الخطأ، او لم يكن قاصداً أو لم
يكن في وعيه التام، قد يكون متوتراً او منزعجاً المت به مصائب
الدينا، فسنوات أنت في رعاية والدك واهلك ومن صغرك الى أن شاب رأسك،
وهم يكنون لك الحب والود وفي ظرف تتركهم ولا تكلمهم، ما هكذا
المعروف! وليس من المعقول أن تصبح المشاكل من أعقد مفاصل الحياة
التي نعيشها، وهي قائمة على اسباب تافهةٍ! فلا أقل أن ننتبه لكل
مشكلة، او خلاف يحدث ونتأمل جيداً في اسبابه، رغم بساطة هذه الكلمات
التي أنسجها أمامك، الا أن الامر ليس سهلاً كما تتصور وليس صعباً
كما كنت تتصور، فخذ الحالة الوسطى تسر سليماً صحيحاً، فأن قلت لك أن
التطرف في هذه المواضيع لا فائدة فيه ابداً، فلا تتعجب، ولم يكن ثمة
فرق بين الانسان المندفع نحو المشاكل وبين من لا يجيد التعامل مع
الخلاف فكل واحد منهما سوف يقع اسيراً للخلافات، فَقَدِّر الخلاف
ومن ثم أعطِ مدى كُبر الخلاف أو صغره.
القاعدة
الثالثة: فهم الطرف الآخر
عندما تحدث المشكلة بينك وبين
شخص آخر، عليك أن تفهم الشخص المقابل فهماً دقيقاً صحيحاً، فاذا
عرفت حاله وشخصيته استطعت أن تتفاعل معه وفق ما يريد على قدر ما،
وبذلك تسحب ما تريد وتخرج بالنتيجة التي تنفعك، فلا ريب في حصول
النتيجة المذهلة، اذا عرفنا كل شخصية وعرفنا مدى قناعتها بالمحيط
الخارجي من الناس اجمعين، استطعنا أن ندرك جيداً كيف نتعامل معها،
ونتخلص منها دون حدوث الخلاف او وقوع المشكلة، فاذا عرفنا أن الطرف
الآخر متوتر المزاج نقف ولا نتحرك بكلمة حتى ينتهي من حديثه
وانفعاله؛ لأن المتوتر تصدر منه سهام نحوك فاذا بادرته بنفس المزاج
خرجت منك سهام واصطدمت بسهامه، وفي منطقة الوسط سيحصل الخلاف، بينما
إذا سكتَّ فإن سهامك ستقف دون الوصول اليه، وبذلك ستمتص غضبه وتوتره
بطريقتك، وتنتهي المشكلة بكل سهولة، لكن عليك أن تتدرب وتتمرن على
هذه الطريقة جيداً، فقد وجدت الكثير من المشاكل والخلافات تحدث
نتيجة عدم فهم الاخر، والوقوع في شبكة التوتر، فقلما تجد مشكلة تقع
بين انسان يتسم بالهدوء وآخر يتسم بالتوتر؛ لأن الهادئ يسحب غضب
المتوتر ويحاول أن يكون أكثر حنكة في إدارة
الخلاف.
القاعدة الرابعة: معرفة أثر
الخلاف وسلبياته
إن الخلاف أو الأختلاف- وإن كان بين
المفردتين من الناحية العلمية فارق واضح- الذي يحصل بين الناس يقع
على عدة مستويات، بعضها محمود لا شيء فيه، وهو سُنة طبيعية وقد حفلت
النصوص القرآنية بهذا النمط من الاختلاف، كما يظهر ذلك في جملة من
الآيات الكريمة منها قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأرَْضِ واخْتلافُ أَلْسِنَتكُِمْ
وَأَلْوَانكُِمْ إنَِّ فِي ذَلكَِ لآيَاتٍ
لِلْعَالِمِينَ﴾(1) فهذا الاختلاف والتمايز واضح بين
البشر ولا يمكن ايقافه، فربنا هو من رسم هذا الطريق ولا سيئة او
سلبية فيه، بل يدل على عظمة الله تعالى في خلقه واتقانه لصنعه،
فالناس تختلف في اللون والكلام ولا يهم هذا الاختلاف، ففي الواقع لا
يؤثر أبداً، إلا أن الناس التي تغفل ولا تريد الرقي لها فتتمسك بكل
قشة كي يلبوا رغبات انفسهم الامارة ووساوسهم، ومن هنا تتضح خفة عقول
من يميز بين الألوان والأجناس، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض
على اسود ولا طويل على قصير ولا جميل على غيره، هذا ما أكده الدين
الاسلامي، فقد روي عن النبي الأكرم(ص) من خطبة له في حجة الوداع: "
يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على
عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر،
إلا بالتقوى"(2) فجعل ديننا مقياس التفاوت بين
البشر هو التقوى والايمان والدين والعمل الصالح، جاء في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ
خَبِيرٌ﴾(3) فمقتضى الخلقة والحكمة أصرت ان يكون هنالك
ذكر وانثى وشعوبٌ وقبائل وهذا بحد ذاته اختلاف بينكم، لكن الميزان
هو التقوى والايمان والعمل الصالح.
وهنالك الخلاف المذموم الذي يقطع
روابط الاتصال بين البشر، ويجعلهم أمماً مختلفة تسود لغة الكراهية
والعنف بيهم، وخير شاهد هو اليوم، فنرى العالم باسره كيف وقع ضحية
الخلافات، التي تنهار بسببها كل يوم روابط الاتصال والتعارف بين
البشر، فترى الدماء والفساد يعلو الحياة، فلا رحمة ولا تفاهم ولا
حياة كريمة ولا منهج مستقيم يسود العالم، فأحد أهم الاسباب التي أدت
الى ظهور هذه الامراض والاحداث هو عدم وعي الخلاف، وعدم ادراك اضرار
الخلاف السلبي، ذلك الخلاف الذي حذر منه الدين والحكماء واهل العقل،
الا أن اغلب البشر لا يهمهم اي تصريح حتى لو كان في صالحهم، ولم
يأتِ الخلاف السلبي بثمرة وفائدة للناس ابداً، بل جر الويلات
والانتكاسات لواقع الناس، وما نراه اليوم من أثر الخلافات خير شاهد
لذلك، وما عسانا ان نقول في مشهد مرير، واي جزء او اي مشهد تأخذ من
الواقع المرير في البيت ام العمل ام الخارج، فكل ما تراه بعينيك
سيحفر في قلبك ألماً له صداه الذي يأخذ اللب ويروع النفس، هل رأيت
اماً كبيرة السن قد دُرشِت؟ هل رأيت طفلاً يجول في شوارع التيهان
لخلاف وقع بين والديه؟ هل شعرت بتعاسة الحياة؟ هل ناديت يوماً كفاكم
ايها البشر خلافات؟ ان هذه الدنيا التي نعيش فيها، لم تخرج من
الخلاف يوماً حتى اولئك الذين ينعتون انفسهم بمختلف النعوت والاوصاف
لم تخلو ساحاتهم من الخلاف والمشاكل.
هل كُتب على الدنيا أن تكون هكذا؟ ام ان الانسان قادر على أن يجعلها المدينة الفاضلة رغم قصر المدة التي يمكث فيها؟ هل الخلاف هو من يجعل حياتنا معوجة وغير مرتبة ومنتظمة؟ وهل ثمة حلول لمسألة الخلاف ام لا؟ كل ما يمكن أن يقال للذين يريدون الحل، ان يسعَوْن في أنفسهم إصلاحاً، أما أولئك المترفون البعيدون عن الحياة الحقيقية فهم لا يهمهم سوى الاموال كيف تدخل جيوبهم وبانتظار كلمات المدح والرثاء، والدخول مع سلاطين الارض محافظين بذلك على ألقابهم المجازية ومقاماتهم الخرافية، فيا أهل السعي والإخلاص والرقي، إن الخلاف كارثة تهدد مستقبل الارض برمتها، فعلينا أن نبذل الجهد كل الجهد لصد هجمات الوساوس الشيطانية التي يمررها من خلال الخلاف، وقد جربتم ذلك ووجدتم ان دماءً سالت ونفوساً أزهقت وأرواحاً ذهبت أدراج الرياح بسبب الخلاف، وهذه صور الأرض توضح لك خلاف البشر وما حصل بسببه، ويسرد لنا القرآن الحكيم القصص الماضية وأحوال تلك الأقوام، من فجر الوجود في هذه الأرض وإلى نهاية الأرض ومن عليها، بلغة واضحة ليتعرف كل الناس على حياة من كان قبلهم من البشر، كل جيل ينقل لمن يأتي من بعده تلك الحوادث كي يعي ما عليه من تكاليف، وليكون نافذ البصيرة عارفاً بحاله وما يتطلب منه أن يفعله تجاه الحياة كلها بجميع مفاصلها، واهتمت بنقل خلاف المدارس الثقافية ودونته بشكل متفاوت من جهة المصداقية، ما يعني أن نستمع لحديث التأريخ كل يوم، ونستمع لذلك الخلاف بشكل دقيق، لنخرج بنتيجة قطعية ملخصها:
إن الخلاف مهدد للبشرية على طول
التاريخ، فلوحة الدم التي رُسمت لم يغب عنها الخلاف، بل كان السبب
الامثل لذلك، ومن هذه وتلك نستشف بكل ثقة أن الخلاف مهدد لنا
ولمستقبلنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الروم:22.
( 2) ميزان الحكمة: ج 11 ، ص 228.
(3) الحجرات: 13.
المصدر: سلسلة بناء الشخصية
الناجحة (قواعد النجاح) تأليف: حسن علي الجوادي/ من إصدارات
قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة
ص9-19.
ضرورة الرجوع لأهل البيت (عليهم السلام)