ثقافة السعادة: بين الروحانية والعطاء الاجتماعي
2024/09/28
80
ثقافة السعادة: بين الروحانية والعطاء
الاجتماعي
تبارك صباح
في زمن تزايدت فيه الضغوط والمشاغل،
يتساءل الكثيرون: هل توجد ثقافة تسمى "ثقافة السعادة"؟ وكيف يمكن
للإنسان أن يحقق هذا الشعور المستدام بالسعادة؟ إن السعادة ليست حالة
عابرة أو مشاعر مؤقتة، بل هي نمط حياة يمكن للإنسان أن يتبناه عبر طرق
متعددة. إحدى هذه الطرق تكمن في الارتقاء بالروح، من خلال الطقوس
الروحانية مثل الصلاة، قراءة القرآن، والزيارة الدينية. هذه الطقوس قد
تبدو في ظاهرها أفعالاً بسيطة، لكنها تحمل في جوهرها قدرة عميقة على
إحداث تحولات داخلية.
فالصلاة مثلاً، ليست مجرد حركات جسدية
أو كلمات مكررة، بل هي وسيلة للتواصل المباشر مع الله، وهي فرصة
لتصفية الذهن وتطهير القلب من هموم الدنيا. وكذلك قراءة القرآن، التي
تمنح الروح سكينة وتذكيراً بالمبادئ الإلهية، مما يؤدي إلى إحساس عميق
بالطمأنينة. أما الزيارة إلى الأماكن المقدسة، فهي تمنح الإنسان فرصة
للتأمل والاعتزال عن الحياة اليومية، ما يعزز لديه الشعور بالرضا
والتواصل مع القوة الإلهية.
لكن، هل يقتصر مفهوم السعادة على
الروحانية فقط؟ بالتأكيد لا. فالتواصل مع الآخرين، سواء كانوا أقارب
أو أصدقاء، يضفي بُعداً اجتماعياً للسعادة. إذ أن الإنسان بطبيعته
كائن اجتماعي، والشعور بالانتماء والتواصل مع المجتمع من حوله يمنحه
نوعاً من السعادة المشتركة. تلك اللحظات التي يقضيها مع أحبائه، سواء
في حديث عابر أو في مناسبة اجتماعية، تحمل قيمة كبيرة في تحقيق
السعادة.
ورغم أن السعادة قد تأتي من العلاقات
الاجتماعية والروحانية، إلا أن هناك بُعداً آخر لا يمكن تجاهله وهو
العطاء. كم هو سعيد من يعطي العالم المحروم بعضاً من خبز العافية ودفء
الحنان. فالعطاء ليس مجرد تقديم مادي، بل هو شعور بالتضامن
والإنسانية. عندما يتواصل الإنسان مع الفقراء والمحتاجين، ويشاركهم
بعضاً مما أنعم الله عليه، فإنه يشعر بسعادة خالصة نابعة من الرضا
الداخلي والإحساس بأنه يعين من هم في أمس الحاجة.
هذا العطاء يجعل الإنسان يشعر بأنه
قريب من الله، كونه يساعد الآخرين بنية صافية وإخلاص. في هذه اللحظات،
يتلاشى الشعور بالأنانية أو الضغوط الدنيوية، ويحل محله شعور بالراحة
النفسية والسعادة العميقة. إن ثقافة السعادة هذه ليست مجرد حالة مؤقتة
مرتبطة بمواقف معينة، بل هي فلسفة للحياة تتطلب من الإنسان التوازن
بين الروحانية، التواصل الاجتماعي، والعطاء.
السعادة الحقيقية ليست في الأمور
المادية أو اللحظية، بل في ذلك الشعور العميق بالرضا، السلام الداخلي،
والقدرة على التأثير الإيجابي في حياة الآخرين. فعندما يكون الإنسان
في حالة انسجام مع ذاته ومع الله، يصبح قادراً على إيجاد السعادة حتى
في أبسط اللحظات، سواء كانت تلك اللحظات في دعاء صادق، لقاء مع صديق،
أو ابتسامة طفل فقير يشعر بلمسة حنان.
في النهاية، يمكننا القول إن "ثقافة
السعادة" ليست مفهوماً ثابتاً، بل هي مزيج من الروحانية والعطاء
الاجتماعي. إنها القدرة على إيجاد الرضا الداخلي من خلال التواصل مع
الله ومع الآخرين، وتقديم ما يمكن تقديمه من حب واهتمام لمن هم حولنا.
هذا هو سر السعادة الذي لا يتلاشى مع الزمن، بل ينمو ويزداد عمقاً مع
كل عمل صالح، وكل لحظة قرب من الله، وكل يد تمتد بالعطاء.