ورد في كُتب السيَر أنَّ الإمامَ الحسين (عليه السلام) قال يوم كربلاء مخاطبًا المُعسكر الأموي بعد أن حال جمعٌ منهم بينه وبين رحلِه: «وَيْحَكُمْ، يا شيعَةَ آلِ أَبي سُفْيانَ! إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دينٌ، وَكُنْتُمْ لا تَخافُونَ المَعادَ، فَكُونُوا أَحْرارًا في دُنْياكُمْ هذِهِ، وَارْجِعُوا إِلى أَحْسابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عُرُبًا كَما تَزْعُمُون».
فناداه شمر فقال: ما تقول يا حسين؟!
فقال: «أقول: أَنَا الَّذي أُقاتِلُكُمْ، وَتُقاتِلُوني، وَالنِّساءُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ، فَامْنَعُوا عُتاتَكُمْ وَطُغاتَكُمْ وَجُهّالَكُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِحَرَمي ما دُمْتُ حَيًّا».
والسؤال هو: لماذا التقييد بالحياة؟
بعد التتبُّع وجدتُ أنَّ أكثرَ المصادر –العامة والخاصة- التي أرَّختْ لهذه الحادثة خاليةٌ من هذه الفقرة الأخيرة أعني: «ما دُمتُ حيًّا»، فالنصُّ المأثور فيها عن الإمام الحسين (عليه السلام) ينتهي عند القول: «امنعوا رحلي وأهلي من طُغامِكم وجُهَّالكم»، أو: «امنعوا أهلي من طُغامِكم وسفهائِكم»، أو: «فكفُّوا سُفهاءَكم وجهالَكم عن التعرُّض لحرمي، فإنَّ النساء لم تُقاتْلكم».
وأمَّا المصادرُ التي اشتملت على فقرة: «ما دمتُ حيًّا»، فهو كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي، ثم كتاب مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي، وكذلك وردت في كتاب الملهوف للسيد ابن طاووس، والبحار نقلًا عن مقتل محمد بن أبي طالب.
والأقرب أنَّ فقرة: «ما دمتُ حيًّا»، ليست من جملة النصِّ بل هي من خطأ ناسخ النصِّ أو ناقلِه، خصوصًا أنَّه لم يحتفظ بحرفيَّة النصِّ، كما يشهدُ لذلك اختلافُ مصادر النص في عددٍ من الألفاظ.
وعلى أيِّ تقدير، فلو فُرض أنَّ فقرة «ما دمتُ حيًّا» من جملة النص، فليس المراد منها أنَّ لكم أنْ تعتدوا على حرمي بعد موتي، فإنَّ ذلك غيرُ مرادٍ قطعًا بل المرادُ من قولِه: «ما دمتُ حيًا، يحتملُ أحد معنيين:
الاحتمال الأول: هو ما يقربُ من مفادِ قولِه تعالى على لسان عيسى (عليه السلام): ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المائدة: 117).
فالإمامُ الحسين (عليه السلام) أراد القول، أنِّي مكلَّفٌ بحماية حرمي ومنعكم من التعدِّي عليهم ما دمتُ على قيد الحياة، فإذا متُّ فإنَّ الله تعالى يتولَّى حمايتَهم وحفظَهم، فكأنَّه أراد الإشارة إلى أنَّ اللهَ تعالى جعله سببًا في حمايتِهم ما دام على قيد الحياة، فإذا مات فإنَّه تعالى يُسبِّب لحمايتِهم أسبابًا قد لا تكون مُحتَسبة، فهو (عليه السلام) واثقٌ برعاية الله تعالى لهم.
فقولُه (عليه السلام): «ما دمتُ حيًّا»، ليس تقييدًا للأمر بالمنع من التعرُّض لحرمِه! وإنَّما هي بيان لحدودِ وظيفته، وإنَّها تنتهي بموتِه، فإذا مات فإنَّ ثمة مَن سيتولَّى حفظَ حرمِه.
فسياقُ قوله (عليه السلام): «ما دمتُ حيًّا»؛ هو سياق قولِ القائل: أنا متكفلٌّ بقوتِ عيالي ما دُمتُ حيًّا، فإنَّ المفهوم عرفًا من هذه الجملة حين تصدر عن رجلٍ مؤمن هو أنِّي إذا متُّ فإنَّ الله تعالى يتولَّى شأنَهم.
والاحتمال الثاني: هو أنَّ المراد من قولِه (عليه السلام): «أَنَا الَّذي أُقاتِلُكُمْ، وَتُقاتِلُوني، وَالنِّساءُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ، فَامْنَعُوا عُتاتَكُمْ وَطُغاتَكُمْ وَجُهّالَكُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِحَرَمي ما دُمْتُ حَيًّا»؛ هو أنِّي مَن يقاتلُكم والقوانينُ والأعرافُ العربيَّة تقتضي عدمَ التجاوزِ لحدود قتال مَن يقاتلكم، ولهذا يلزمُكم -إنْ كنتم عربًا كما تزعمون- أنْ تمنعوا جُهَّالكم عن التعرُّض لحرمي ما دمتُ حيًّا، وأمّا بعد الموت فلزومُ عدمِ التَّعرُّض للنساء والحرم أوضح؛ لأنَّ التعرُّض للنساء والحرم إنَّما هو لغرض النكاية والإيذاء لمن يقاتلونه، فإذا كان قد قُتل فلا موجب حينذاك للتعرُّض لحرمِه؛ لأنّه لو وقع فإنَّه سيكون بلا موجبٍ، وسيكون أكثر منافاةٍ للقوانين والأصول العربيَّة والعقلائيَّة.
فنهيُهم عن التعرُّض لحرمه في حياته يقتضي النهي عن التعرُّض لهم بعد موته بالأولوية العرفيَّة، ولذلك لم يكن بحاجة إلى بيانه، وكان الاقتصار على النهي عنه في حياته كافيًا لفهم النهي عن التعرُّض لهم بعد وفاته.
وهذا الاحتمال هو الأرجح، إذ هو المناسب لطبيعة المخاطَبين الذين إنْ كان سيردعُهم شيءٌ عن التعرُّض للنساء فهي الأعراف العربيَّة والخشية من التعيير، لذلك حرص الإمامُ (عليه السلام) على تذكيرهم بما قد يُسهمُ في ثنيهم عن هذه الموبقة، ولهذا ورد في النصوص أنَّ الشمر بن ذي الجوشن أجاب الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله: (لك ذلك يا ابن فاطمة، ثمُّ صاح بأصحابه: إليكم عن حرمِ الرجل، واقصدوه بنفسه، فلعمري لهو كفوٌ كريم) (الملهوف، السيد ابن طاووس: ص146).
__________________________________________
توافق الأحكام الشرعية مع الفطرة والعقل
منع التعرُّض لحرم الحسين (عليه السلام)