ضيق أُفق الإنسان.. لماذا!
2025/04/27
26

سبب ضيق الأُفق:

من طبائع الإنسان أن يُحاط بما تبلغه حواسه وما يطاله إدراكه، فيغترّ بما يرى ويسمع، ويظنّ أنّ ما وراء ذلك عالمٌ موهوم أو لا وجود له. وهذه الآفة الفكرية تُسمى بـ(ضيق الأُفق)، لأنّ الإنسان يحصر فهمه في حدود تجربته الضيِّقة، ويرفض كلّ ما لا تبلغه عينه أو يبلغه عقله المحدود. وهذه الغفلة هي سببٌ لكثير من مظاهر الجهل، وأصلٌ لجحود الحقائق التي تفوق مداركه.

الشبه بين الطفل وضَيِّق الأفق:

لنتأمل معاً حال الجنين في بطن أُمِّه، كيف يعيش في عالم ضيِّق مظلم، ولا يعي أنّ وراء هذا الظلام نوراً، ولا يدرك أنّ هناك حياة ممتدة فيها سماء واسعة، وأرض رحبة، وهواء نقي، وأصوات شتى، وألوان بهيجة.. ولو خُيِّل إليه أن يصدِّق بوجود هذه الحياة التي تنتظره لأنكرها؛ لجهله وضيق أُفقه.

وهكذا الإنسان في هذه الحياة؛ يعيش في حيِّز ضيق من الوجود، يرى ما حوله ويحسب أن لا شيء وراء ذلك.. ينظر إلى الكون بعينيه القاصرتين فيرى السماء فوقه والأرض تحته، ويظن أنّه أُوتي العلم كلّه، فينكر ما لا يدركه علمه القاصر، وينفي الغيب؛ لأنّه لا يقع تحت بصره، وينكر الآخرة؛ لأنّها خلف حجابٍ لم يُرفع له بعد.

قال الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الإنسانُ أإذَا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً﴾ (مريم: 66)، فهو يرى الموت نهاية الوجود؛ لأنّه لم يُمنح بصراً يرى به ما وراء الحجاب.

إن ضيق الأفق أسير الجهل وربيبه، والمشكلة ليست في محدودية الإدراك، فذلك من طبيعة الإنسان الضعيف، بل في اعتقاده أنّ ما لا يراه معدوم وما لا يفهمه باطل، ويقول الله تعالى في وصف هؤلاء:

﴿بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ (القيامة: 5)، أي: إنّه يرفض النظر في العواقب، ويسعى فيما أمام عينيه فحسب، كطفل يلهو بظلّه ولا يعلم حقيقة نفسه.

وهذه الحال وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) حين قال: «النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا» (نهج البلاغة: ص٥٠١)، فالجهل يولِّد العداء، ويصنع الحواجز بين الإنسان والحقيقة.

الحقائق أوسع من مداركنا:

لو عاد بنا الزمن إلى قرون مضت وأخبرنا أهلها عن وجود كواكب أخرى، أو عوالم دقيقة لا تُرى بالعين، أو أصوات تنتقل عبر الهواء، لضحكوا استهزاءً، ولكن الحقيقة لم تكن رهينة إدراكهم المحدود، بل كانت موجودة وإن أنكرها منكر.

وهكذا الأمر في شأن الروح، والملائكة، والبعث بعد الموت، والحياة البرزخية، كلُّها أُمورٌ غيبية عجزت العقول المحدودة عن إدراكها، لكنها حقيقة ثابتة بدليل الوحي والعقل لمن تدبّر وتفكر.

قال الله تعالى في وصف حال الإنسان يوم القيامة حين تنكشف له الحقائق: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيدٌ﴾ (ق: 22).. حينها فقط يدرك الإنسان مدى ضيق أُفقه في الدنيا، وكم كانت حواسه تخدعه.

التقليد الأعمى وضيق الأفق:

من أسباب ضيق الأفق أن يُسلِّم الإنسان عقله لغيره، فيقنع بفكرة واحدة لأن المجتمع أو العرف قال بها، دون أن يجرؤ على التفكير خارج الصندوق، ومثل هذا الإنسان كمَن يسير في نفق طويل مظلم، يخشى الالتفات يمنة أو يسرة، فيظل حبيس رؤيته الضيقة.

قال الله تعالى عن أهل التقليد الأعمى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَـهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَل نَتَّبِعُ مَا أَلفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا﴾ (لقمان: 21).

وهذا هو الجمود الذي حذّر منه الأنبياء (عليهم السلام)، وهو ما جعل الأمم السالفة تسقط في الهلاك.

إنّ الإسلام دين تفكر وتدبر، ودعوة إلى فتح نوافذ العقل، إذ قال الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُـهَا﴾ (محمد: 24).

فالإنسان الذي يريد الحق لا يكتفي بما وصل إليه علمه، بل يسأل، ويتأمل، ويبحث، ويستمع للنصح، ولا يجعل مِن رأيه صنماً يعبده.. فالحياة أكبر من أن تُحصر في لحظة عيشنا، والوجود أوسع من أن تراه أعيننا، والحقيقة أعمق من أن تُدرك بظنوننا.

 

  • السيد رياض الفاضلي
__________________________________________
نشرة الكفيل/نشرة أُسبوعيةٌ ثقافيةٌ (مجانية)، تتناولُ المعارفَ القُرآنيةَ، والعقائديةَ، والفِقهيةَ، والتاريخيةَ، والأخلاقيةَ، والتربويةَ، والاجتماعيةَ، والصحيةَ بأُسلوبٍ مبسّطٍ ومختصرٍ، تصدر عن العتبة العباسية المقدسة/ العدد 1018.
تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا