تأملات في خطبة الإمام الحسن (عليه السلام)
2025/03/16
65
تأملات في خطبة الإمام الحسن (عليه السلام)

تخيل أن تقف بين يدي الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، وأنت تتوق شوقاً لمعرفة الله سبحانه، فتسأله: "يا ابن رسول الله، صِفْ لي ربَّكَ حتى كأنِّي أنظرُ إليه"، فيطرق الإمام (عليه السلام) ملياً، وكأنّه يفتح أبواب الحكمة ليمنحك جواباً يسكن قلبك إلى الأبد. ثم يرفع رأسه ويبدأ بالكلام، فيأخذك حديثه إلى عالم من نور، حيث تُزال الغشاوة عن البصائر، وترى الحقيقة ناصعة، بلا غموض ولا التباس:
«الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَوَّلٌ مَعْلُومٌ، وَلَا آخِرٌ مُتَنَاهٍ، وَلَا قَبْلٌ مُدْرَكٌ، وَلَا بَعْدٌ مَحْدُودٌ، وَلَا أَمَدٌ بِحَتَّى، وَلَا شَخْصٌ فَيَتَجَزَّأُ، وَلَا اخْتِلَافُ صِفَةٍ فَيَتَنَاهَى، فَلَا تُدْرِكِ العُقُولُ وَأَوْهَامُهَا، وَلَا الفِكَرُ وَخَطَرَاتُهَا، وَلَا الألبَابُ وَأَذْهَانُهَا صِفَتَهُ، فَتَقُولُ: مَتَى؟ وَلَا بُدِئَ مِمَّا، وَلَا ظَاهِرٌ عَلَى مَا، وَلَا بَاطِنٌ فِيمَا، وَلَا تَارِكٌ، فَهَلَّا خَلَقَ الخَلْقَ؟ فَكَانَ بَدِيعاً بَدِيعاً، ابْتَدَأَ مَا ابْتَدَعَ، وَابْتَدَعَ مَا ابْتَدَأَ، وَفَعَلَ مَا أَرَادَ، وَأَرَادَ مَا اسْتَزَادَ، ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ» (التوحيد، للشيخ الصدوق (رحمه الله): ص٤٥/ح5).
يبدأ الإمام (عليه السلام) حديثه بتسبيح الله تعالى، فيخبرك أنّ الله «لم يكن له أوّلٌ معلومٌ ولا آخرٌ متناهٍ»، فالله أزليّ لا بداية لوجوده، وأبديٌّ لا نهاية له، فلم يكن هناك زمن يسبق وجوده، ولن يأتي وقت ينتهي فيه.
كيف لعقولنا المحدودة أن تستوعب هذا؟
وكيف لنا أن ندرك كُنه من كان قبل كلِّ شيء، ويبقى بعد كلِّ شيء؟
ثم يكمل الإمام (عليه السلام)، فيرسم لك صورة أكثر وضوحاً: الله ليس كالبشر، فلا يُدرك بالحواس، ولا تحدُّه حدود، فلا يمكن أن يقال عنه: «قبلٌ مُدرَكٌ ولا بعدٌ محدودٌ»، فليس هناك «قبل» يمكن أن يُقاس به، ولا «بعد» يُحدّد به، إنّه فوق الزمن وفوق الوجود كما نعرفه، وفوق كلِّ تصوِّر.
أمّا عقولنا، فهي قاصرة عن إدراكه، ومهما اجتهدت الأفكار وتأملت الأذهان فإنّها تبقى عاجزة عن الإحاطة به، فكما قال الإمام (عليه السلام): «لا تُدرِكِ العقولُ وأوهامُها، ولا الفكرُ وخطراتُها، ولا الألبابُ وأذهانُها صفتَهُ»، فإنّ العقول التي تظن أنّها تستطيع قياس كلِّ شيء، تُشلُّ أمام عظمة الله، والفكر الذي يسبر أغوار الكون، يقف حائراً عند عتبة المعرفة الإلهية.
ثم يرفع الإمام (عليه السلام) صوت الحق، ليؤكد أنّ الله واحدٌ لا يتجزأ، لا يتغير، لا يفقد صفة ليكتسب أخرى، فهو (ليس شخصاً فيتجزّأ، ولا اختلافُ صفةٍ فيتناهى)، فالكمال المطلق، الثبات الأبدي، القوة المطلقة، كلُّها صفات لا تنفك عنه لحظة، لأنّ الله جل وعلا ليس كالمخلوقات، لا يحتاج إلى شيء ليكون، بل هو العلة الأولى والخالق الأعظم.
ولكن كيف خلق اللهُ تعالى الكونَ؟
كيف جاء كلُّ شيء إلى الوجود؟
يجيبك الإمام (عليه السلام) قائلاً: «ابتدأ ما ابتدع، وابتدع ما ابتدأ» فالله أبدع الخلق من العدم، بلا مثالٍ سابق، بلا احتياجٍ إلى مادة، بلا تعبٍ أو مشقّة، وإنّما قال له: «كن» فكان!
ثم يختم الإمام (عليه السلام) خطبته العظيمة بتلك الجملة التي تلخِّص كلِّ شيء: «ذلكم الله رب العالمين».. نعم، هذا هو الله، من لا بداية له ولا نهاية، من لا يُدرَك ولا يُحَدّ، من لا يُشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء.
فهل بعد هذا البيان يبقى شكٌّ في قدرة الله وعظمته؟!
وهل بعد هذه الكلمات يحتاج الإنسان إلى برهان آخر ليؤمن ويسلِّم لله بقلبٍ خاشع وعقلٍ مطمئن؟!
يا لها من كلمات تهزُّ الروح، وتأخذ القلب بعيداً في تأملٍ لا ينتهي!

✍️ إعداد / علاء الأسدي

__________________________________________
نشرة الكفيل / نشرة أُسبوعيةٌ ثقافيةٌ (مجانية)، تتناولُ المعارفَ القُرآنيةَ، والعقائديةَ، والفِقهيةَ، والتاريخيةَ، والأخلاقيةَ، والتربويةَ، والاجتماعيةَ، والصحيةَ بأُسلوبٍ مبسّطٍ ومختصرٍ، تصدر عن العتبة العباسية المقدسة/ العدد 1012.
تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا