العفة بناء أخلاقي ونهج حضاري
العفة ليست مجرد مبدأ أخلاقي، بل هي
حالة إنسانية متكاملة، تنبثق من السيطرة العقلية المؤمنة وتحكمها
القيم التربوية السامية، إنّها ألق وجداني يحصِّن الأخلاق، ويوفر
وقاية من المؤثرات السلبية التي قد تعصف بسلامة الفرد
والمجتمع.
العفة تتجلّى في مختلف جوانب
الحياة؛ فهي عفة القلب من الهوى، وعفة العقل من الأفكار السلبية،
وعفة الروح من الشهوات، حتى النظر يحمل نصيبه من العفة، فيصير البصر
بوابة لبصيرة تتسامى عن كلِّ ما يشوبها (انظر: تفسير الميزان،
للعلامة الطباطبائي)، ومن دون العفة تفقد القيم الإنسانية توازنها،
إذ لا يمكن للعفاف أن يستقيم دون قراءة سيرة أولياء الله من
الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والصالحين؛ للاقتداء بهم (انظر:
بحار الأنوار: ج13).
تروي لنا قصة نبي الله موسى (عليه
السلام) مع نبي الله شعيب نموذجاً راقياً للعفة والحياء، عندما فرّ
موسى من مصر، متعباً وخائفاً، وجد نفسه في أرض (مِدْيَن) إذ رأى
امرأتين تقفان بعيداً عن البئر بانتظار أن يسقي الرعاة أغنامهم،
تردّد للحظة، ثم تقدم ليساعدهما، في مشهد يعكس قمة الحياء والعفة،
لم يسأل عن اسميهما، ولا تجاذب معهما أطراف الحديث، بل اكتفى بسقاية
الغنم وانصرف إلى الظلِّ يدعو ربه: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ
إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ (القصص: 24).
وعندما عادت إحدى الفتاتين لدعوته
إلى لقاء والدها، نبي الله شعيب، كانت تمشي على استحياء، وكأن
خطواتها تنطق بالعفة والوقار، استخدم القرآن الكريم وصف "استحياء"
للتعبير عن حالة تورية بليغة؛ فهي ليست مجرد مشية، بل رسالة ضمنية
تعكس قيماً تربوية سامية تُعلِّم المرأة والرجل على حدٍّ سواء كيف
يكون التواصل بحياء واحترام.
لقد أقرّ شعيب بنزاهة موسى وعفته
حين قال:
﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ﴾ (القصص: 27)، إذ لم يكن المال أو الجاه ما جعله
يثق به، بل أخلاقه وعفته التي أظهرت قدرته على بناء أسرة
متماسكة.
إن العفة، كما تُعلمنا قصة موسى
وشعيب (عليهما السلام)، هي مفتاح للعلاقات السوية التي تقوم على
الاحترام والحياء المتبادل، في زمن طغت فيه المادة وسادت المؤثرات
السلبية، تصبح العفة سلوكاً حضارياً لا غنى عنه لتحصين المجتمع
وبنائه على أسس أخلاقية قويمة.
✍️ أفياء الحسيني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرة الخميس/ نشرة أُسبوعيةٌ
ثقافيةٌ (مجانية) تصدر عن العتبة العباسية المقدسة/ العدد
1016.