الطاهرة.. ركن الإسلام الثالث
2024/03/31
240

في مدينة مضطربة كانت ملبّدة بغيوم الجهل وزاخرة بالظلم والاستبداد وقتل الأولاد من إملاق ووأد البنات، مدينة ملأى بأشواك الكفر وعبادة الأوثان، يحكم فيها البغض والشنآن، يعمها الفقر والاستعباد، تأكل القدّ وتشرب الطَرق..

من بين تلك الأشواك الوثنية نبتت زهرة طاهرة عفيفة في بيت حنيفي إبراهيمي يؤمن بالله الواحد القهّار بعيداً عن تلك الطقوس الوثنية والأفعال الجاهلية.. قلبها مفعم بالإيمان تتطلّع لنيل السؤدد والأمجاد، لم تغرها زخارف الدنيا وزبارجها وهي التي ملكتها بين يديها حتى غطّت تجارتها الخافقين من أطراف اليمن وصولاً إلى الشام، تحتضن الفقراء والمساكين، تواسيهم وتعطف عليهم لتنتشلهم من شظف العيش، وكان يعمل لديها الغني والفقير، فيضاربون بأموالها ويتاجرون..

أوصاف نادرة كاللؤلؤة في صدفة مكنونة في غياهب البحار، جعلها مطمعاً ومقصداً للقريب والبعيد ومن خير الوجهاء والكبراء.. رفضتهم بضرسٍ قاطع؛ لأنها لم ترَ فيهم فارس أحلامها الذي يلبّي طموحها؛ فهي تحلم بالضياء الذي سيملأ قلبها نوراً وبهاءً، أفقها بعيد يبحث عن الصادق والأمين الذي تطمئن إليه فترمي ثرواتها وجاهها تحت قدميه مطيعة لأوامره ونواهيه، ولها الشرف والفخر..

نظرت بنظر المؤمن الناظر بقلبه وليس بعينيه حينما ضارب شاب بأموالها فرأت فيه ما تبحث عنه بعدما طار صيته في الآفاق حتى دخل كلّ بيت وزقاق وسمعت به المخدرات وحتى الخدم والجاريات، فأتى بالخبر الجليل ورُدّت الأموال أضعافاً مضاعفة والخير الجزيل، لكنها لم تنظر إليها بل تحرّت عن أخلاقه وصفاته طوال رحلاته، فجاءت الأخبار بالخبر السار مثلما سمعت وأكثر حتى قصّته مع ذلك الكاهن الجهبذ..

تزوّجا وصارت له نعم الزوجة؛ صدّقت به حينما كذّبه الناس، وآمنت به حينما كفر الناس، ورُزق منها الولد وحُرم من غيرها.. كانت ثمرة هذا الزواج حوراء إنسية لم يُخلق مثلها في العباد، هذه الثمرة جمعت نوري النبوة والإمامة فتفرّع منها أحد عشر نوراً تضيء لأهل السماوات والأرض..

عانت معه حتى هجرتها النساء، وآسته عندما قلّ الناصر، وشدّت من أزره، وبذلت كلّ أموالها فداءً له وللدين، حتى خصّها السلام جلّ ذكره بالسلام! أعظم به شرفاً سامياً ومجداً عالياً لا يناله إلا المقرّبون المصطفون، حتى قال (مَن لا ينطق عن الهوى): لم يكمل من النساء إلا أربع.. كانت هي إحداهن.

كانت بحق نعم الناصر والمعين والمواسي والوزير حتى ختمت جهادها ونضالها بشِعب ظالم دام ثلاث سنين، فأنفقت كلّ ما تبقّى من أموالها، ولولاه لهلك كلّ مَن كان هناك ولَانطفأ النور قبل انتشاره، فكانت ركناً أساسياً ثالثاً من أركان الإسلام بعد الكفالة وسيف ذي الفقار، ولكن لا بد من تضحية فراحت والكفيل ضحية، لعظم ما كابداه من معاناة وأذية!

فعظم حزن سيد الأنام على خير الصاحب والكفيل وسمّي ذلك العام عام الحزن! وبرحيلها كانت ساعة الصفر لانطلاق شرارة الإسلام لينتشر نوره في كلّ حدب وصوب حتى ملأ الخافقين، ليبقى نور ذكراها متأجّجاً في وجدان كلّ مَن بالإسلام يدين، ويكفيها فخراً أنها جدّة آل ياسين أئمة الخلق أجمعين. ولما رحلت (صلوات الله عليها) بقي شذى ذكراها في أرجاء بيت الرسالة وضمير سيد الخلق أجمعين، فلا يفتأ من ذكرها في كلّ حين حتى أثار حفيظة إحدى نسائه وقالت في حقّها ما لا يليق بها في حضرته! فاستشاط غيضاً وقال لها عنها: والله ما أبدلني بخير منها..! وإنه لقسمٌ عظيم من سيد المرسلين وخاتم النبيين..

فهلّا أخذت نساؤنا اليوم من عبق سيرة هذه السيدة العظيمة المعطاءة عبرة وعِظة؛ من تضحية وطاعة وذوبان في القضية الأسرية والدينية وتوهين الدنيا وتعظيم الآخرة وثبات في المبدأ وحمل الأعباء الجسيمة والوقوف جنباً إلى جنب مع الزوج في السرّاء والضرّاء وبذل الغالي والنفيس لخلق الجو الذي يستحقه وجعل البيت ملاذاً آمناً وملجأً هادئاً فتراه يفيض حباً وحناناً ويزخر طيباً وسعادةً..

هي بحق أسوة لكل النساء.. هي مَن تربطكنّ بالآخرة، وليس غيرها ممّن تجركنّ إلى شباك الشيطان ومزالقه، سرن وراء مَن يأخذ بيدكنّ إلى العفة والاحتشام وسمو الأخلاق لتحظينَ بالرضا والقبول من الله تعالى والرسول، ولا تسرنَ وراء مَن يأخذكنّ إلى التهتك والخسّة فيرديكنّ في حفر إبليس وأعوانه، فالدنيا أمدها قصير فانية والآخرة أمدها طويل باقية.

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرة الخميس/ نشرة أُسبوعيةٌ ثقافيةٌ (مجانية) تصدر عن العتبة العباسية المقدسة/ العدد 976.
علي عبد الجواد

تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا