الأسرة المسلمة والتحولات الحضارية الجديدة
2020/03/06
827

إن الأسرة بحكم تكوينها ووظيفتها عرضة للتقلبات والصراعات الخطيرة التي تحدث في المجتمع، فالحروب مثلاً، تُحدِث اضطرابات وهزات عنيفة في العلاقات الاجتماعية والقيم الإنسانية في الأسرة، وبذلك تنعكس الأحداث الخارجية على العلاقات الداخلية للأسرة، بل أنَّ ذلك يتعدى إلى تركيبتها العامة ووظائفها الاجتماعية، ولهذا يصعب فصل الأسرة كمؤسسة اجتماعية، ورصد مساراتها المستقبلية دون الأخذ بنظر الاعتبار النظم الاجتماعية الأخرى، فالأسرة ذات ارتباط وظيفي ببقية مؤسسات المجتمع؛ لأنَّها خلية اجتماعية لها وظائف ذاتية خاصة بها، ووظائف أخرى ضمن إطار المنظومة الاجتماعية، وبذلك تكون هذه الخلية مؤثرة في سير المجتمع من ناحية، وتتلقى التأثير من نواحي أخرى، تبرز في مقدمتها العوامل الثقافية والاقتصادية.

والتغيير في الأسرة ليس عملية ذات أبعاد قصيرة، وإنما هي مرتبطة بتغيرات سياسية وعقائدية واقتصادية كبرى تعكس واقعها على الأسرة، تركيباً ووظيفة، ولهذا فإن المدى الزمني لتوقعات مستقبل الأسرة يجب أن يمتد إلى عدة أجيال قادمة لنرى صحة بعض التوقعات المستقبلية كما تُرصَد في الحاضر.

وتعد الأسرة من أهم المؤسسات الاجتماعية؛ نظراً لعلاقاتها الوثيقة بالفرد والمجتمع، والتي تتجسَّد في الوظائف الجوهرية التي تقدمها للمجتمع الكبير من خلال قيامها برعاية الفرد، والسهر على تلبية ما يحتاج إليه من خدمات وعناية وإشراف.

وكما لا يخفى فإنَّ التطلع إلى بناء الإنسان المسلم المعاصر يتطلب المحافظة على أصالة ذلك الإنسان، وهذا يأتي من خلال الأسرة؛ فهي الوحدة الأساس في تثبيت السمات الجوهرية للمؤسسات البنيوية المادية وغير المادية التي تتعامل مع الإنسان وتتفاعل مع معطيات حياته.

وهذا يعني أن مساهمة الأسرة في عملية البناء الحضاري في المجتمعات الإسلامية المعاصرة مساهمة لها وزنها الكبير ودورها الخطير، فلها الأهمية الكبرى في غرس القيم الإسلامية وتحديد نماذج الاقتداء والالتزام بالمبادئ، وممارسة الابداع الذهني في أجواء من السكينة والاطمئنان والأمن المادي والمعنوي، وتبرز أهمية الأسرة في البناء الحضاري والمساهمة في تحقيق مستلزمات الإسلام ومقتضيات العصر من كون الأسرة هي القناة الأولى التي يتلقى منها الفرد المفاهيم الإسلامية والقيم الدينية، ومعايير السلوك وأهداف المجتمع وغاياته، في عملية تفاعل صادق نحو تشكيل الشخصية النموذجية وتكوينها عن الإنسان، والتي تعبر عن شخصية المجتمع الكلي وأخلاقه.

ولكن عملية تنشئة الفرد لم تعد مسؤولية الأسرة لوحدها في هذا العصر، ولكنها أصبحت حاصل جميع المؤثرات والمثيرات التي تحدثها وتنتجها بقية المؤسسات الاجتماعية والإعلامية والسياسية والاقتصادية فتعمل على تشكيل الإنسان وصقل شخصيته.

وإنَّ محاولات رصد الأسرة المسلمة مرتبطة بمعرفة تلك العوامل المؤثرة في وظيفة الأسرة وأنشطتها وأنواع العلاقات الرابطة بين أفرادها، وننطلق من الماضي والحاضر إلى ذلك المستقبل في محاولة لاستكشاف محاور التغيير في الأسرة المسلمة.

وإنَّ العوامل المؤثرة في تغييرات الأسرة كثيرة ومتعددة منها: العوامل الجغرافية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية ولكل عامل من هذه العوامل أثره البارز في إحداث تغييرات واضحة في الأسرة المسلمة.

ويعد العامل الاقتصادي من أكثر العوامل استخداماً في نظريات التغيير الاجتماعي؛ فطبيعة العمل ومصدر الدخل وإمكانية الحصول على السلع هي التي تحكم العلاقات الاقتصادية بين الناس وهي التي تشكل محور اهتمام الأسرة.

وإنَّ استشفاف مستقبل العوامل الاقتصادية يوحي بوضع مأساوي تعيشه المجتمعات الإسلامية مستقبلاً في ظل الفوارق المعيشية الصارخة بين أبنائها، فالأسرة التي تعيش في وفرة مادية في عصرنا الحاضر ستميل إلى الأنماط الاستهلاكية، واستيراد المواد الكمالية، وسيتضح ميل هذه الأُسر إلى تقليد النوذج الغربي في العلاقات الأسرية، وفي العادات الاجتماعية ومعايير السلوك غير المتزن، وبذلك نتوقع أن يكون الميزان في مستقبله راجحاً لصالح تلك المجتمعات التي لا تملك تماسكاً أكثر وأوضح في تحديد الهوية الإسلامية في سلوكها وأنماط علاقاتها.

ويمكننا توقع مستقبل الأسرة المسلمة في المجتمعات ذات الوفرة المادية عند عدم وجود خطط واعية لتلك الأسرة، فإن وجدت البرامج الإعلامية للتوعية بين الناس في مجال تحديد الهوية، والابتعاد عن الأنماط السلوكية الغريبة، والتحرر من سمات الاستهلاك، والحث على الإنتاج كقيمة حياتية، فإنَّ ذلك سيؤثر على مسلك الأسرة المسلمة في المستقبل.

وكذلك فإن أي رخاء اقتصادي متوقع في المجتمعات المسلمة الفقيرة، يعقبه تحسن في الخدمات الصحية مما يترك أثره في استقرار الأسرة وسعادة أفرادها، إذ أنَّ انخفاض مستوى الدخل في كثير من المجتمعات الإسلامية قد أدى إلى تقليص في مستوى الخدمات الترفيهية؛ لأنَّ الجانب الترفيهي له الدور المعلوم في ترابط الأسرة الصغيرة.

 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: برنامج المدرسة الأولى - الحلقة الحادية عشرة- الدورة 27.

 

تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا