سجون الطواغيت مهبط الملائكة
2025/01/26
31
سجون الطواغيت مهبط
الملائكة
طواغيت الأرض، فراعنة الدهر، يستولون
على العباد والبلاد، مَن سار في ركابهم أمِن، ومَن خالفهم فطريق إزهاق
روحه قصير المدى! إنْ تعطَّف عليه الطاغية وزمرته يُستبدل القتل
بالحبس، أمّا مدة الحبس فطولها وقصرها مرهون برغبة الجلاد الذي يتلذذ
بتعذيب من خالفه من رعيّته.
تعامل العباسيون مع خصومهم بنفس
الطريقة التي عليها حكام الدنيا، فلم يدَعوا شبحاً مخيفاً لهم إلا
واتخذوا في حقّه ما يؤمّنهم منه، من نفي أو قتل أو حبس.
سجون العباسيين مليئة بمن يرون أنّهم
خصوم لهم، بدلاً من أن يكون الحبس مقصوراً على أصحاب الجرائم ومن
يُخاف على الناس من شرّه ومكره وكيده.
إنّهم العلويون، ملأ العباسيون بهم
تلك السجون التي تبثُّ شكواها إلى الله تعالى، السجون التي تبكي
نزلاءها، وتئن لأنينهم، وتتألّم لقيودهم، السجون التي طالما عُبد الله
تعالى فيها.
ولم يكن سجن الإمام الكاظم (عليه
السلام) ببعيد عن تلك السجون، التي يتقطع لذكراها قلب الإنسانية! إنه
سجن حلّ فيه نور من أنوار آل محمد (عليهم السلام)، بعد أن خافه الطغاة
على دنياهم.
قضى كاظمُ الغيظ شطراً من عمره الشريف
في سجن هارونَ العباسيّ بعيداً عن أهله، عن شيعته، ضاق بهارونَ ذرعاً
ما كان يراه من فضائل سجينه، تلك التي ظهرت للخاصِّ والعامِّ وسارت
بها الركبان، لا يستطيع التّعتيمَ على ذلك، فكّر في أن يدسّ إلى سجينه
سُمّاً ليستريح منه، دعا برطب من أجود أنواعه، دسّ سمّاً في إحدى
الرُّطبات، مزجها بباقي الرّطب كي تغيب عن حجّة عصره، يأكلُها السّجين
فيموت ويستريح منه الطاغية.
يأمر هارون خادمه: احمل هذه الصّينية
إلى موسى بن جعفر، وقل له: إنّ أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب،
وتنغّص لك به، وهو يقسم عليك بحقِّه لمّا أكلْتَها عن آخر رطبة، فإنّي
اخترتها لك بيدي.
أوعز إلى خادمه أن لا يفارق الإمام
(عليه السلام) حتى يراه بأمِّ عينيه أنّه قد أكل جميع الرّطب، ظنّ
هارون أنّه بهذه الطريقة سوف يتخلّص من سجينه المظلوم.
حمل الخادمُ وعاءَ الرُّطب إلى
السّجين المُمتحَن، طلب منه الإمام (عليه السلام) خِلالاً، جعل (عليه
السلام) يدسُّ عُود الخِلال في كلِّ رطبة رطبة ثمّ يأكلُها، الخادم
ذاهل عن فعل الإمام، لم يزل الخادم واقفاً حتى فرغ الوعاء من
الرُّطب.
عاد الخادمُ إلى المَلِك العاتي يحمل
مخلّفات المكيدة، وعاء الرّطب خالياً منه، يلتفت هارون إلى خادمه
مستفهماً -ينتظر منه بشارة تأثّر سجينه بالرّطبة
المسمومة-.
- قد أكل الرطب عن آخره؟
- نعم يا أمير المؤمنين.
- فكيف رأيته؟
- ما أنكرت منه شيئاً، يا أمير
المؤمنين.
كَلْبةٌ لهارون، يهتمّ بها اهتماماً
بالغاً، يُلبسُها الجواهر، قيل له إنّها ماتت من أثر سمٍّ، تهرّأ
جسدها، عظُمَ عليه أمرُها، قلق قلقاً شديداً، حملتْه قدماه إلى كلبته
المتهرّئة ليقفَ على حقيقة خبر كلبته، دعا بالسّيف، أحضر خادمه، توجّه
نحوه وهو مليء بالحَنَق.
- لَتصدقني عن خبر الرّطب أو
لأقتلنك.
- يا أمير المؤمنين، إنّي حملتُ
الرّطب إلى موسى بن جعفر، وأبلغته سلامك، وقمت بإزائه، فطلب مني
خِلالاً، فدفعته إليه، فأقبل يغرز في الرّطبة بعد الرّطبة، ويأكلها،
حتى مرت الكلبة، فغرز الخلال في رطبة من ذلك الرّطب، فرمى بها
فأكلتْها الكلبة، وأكل هو باقي الرّطب، فكان ما ترى يا أمير
المؤمنين.
عرف هارون أنّه لا حيلة في كيد حجّة
زمانه، أولئك زقّوا العلم، حازوا الحكمة، محدَّثون، لا يخفى عليهم كيد
الكائدين مهما كانوا، تكلّم هارون العباسي بكلمات أنبأت عن خسرانه
وخيبته.
- ما ربحنا من موسى إلّا أنّا أطعمناه
جيّد الرّطب، وضيّعنا سُمّنا، وقتل كلبتَنَا، ما في موسى حيلة.
(يُنظر: عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج1/ ص94/ ح6).
حادثة من بين عشرات الحوادث التي صبّ
هارون فيها كيده ليتخلّص من سجينه القدّيس، السجين الذي قضى أيام سجنه
متفرّغاً لعبادة ربه، بعد أن استجاب ربّه دعاءه.
وكأنّي بالسجن يبكي خجلاً من سجينه
المظلوم، فيبشرّه ذلك السجين بأنّه سوف يقضي أوقاته بعبادة ربه، ليصبح
السجن مهبطاً للملائكة، ويكون محلّ اغتباط الأرضين
بأجمعها.
ليت التأريخ حفظ لنا أماكن سجون حليف
السجدة الطويلة، لنتّخذها مقاماً نتبرك به، حيث عبدَ اللهَ فيها سنين
عديدة.
✍️ السيد أسعد القاضي
__________________________________________
نشرة الخميس/نشرة أُسبوعيةٌ ثقافيةٌ
(مجانية)، تتناولُ المعارفَ القُرآنيةَ، والعقائديةَ، والفِقهيةَ،
والتاريخيةَ، والأخلاقيةَ، والتربويةَ، والاجتماعيةَ، والصحيةَ
بأُسلوبٍ مبسّطٍ ومختصرٍ، تصدر عن العتبة العباسية المقدسة/ العدد
1020.