اقلام على خطى الزهراء(عليها السلام)
إنسان يطرق الباب
✍ زهراء هادي عبد الحمزة
عندما اخترق شعاع الشمس ظلام المنزل، استيقظ ولداي الحسن والحسين كعادتهما بابتسامتيهما المشرقتين، ولكن سرعان ما تغيرت الأجواء عندما شكا الحسن من التعب وظهر على وجهه أثر المرض، ولم يلبث الحسين أن أصابه ما أصاب أخاه. أسرعت لزوجي علي، وأخبرته بما حدث، فهدّأني قائلاً: “لا تخافي، سيشفيهما الله”.
أيام مرت، ولا يزال المرض يثقل كاهل ولديّ، حتى وصل الخبر إلى جديهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الذي جاء مسرعًا لزيارتهما برفقة وفد من الصحابة. اقترح أحدهم أن ينذر علي نذرًا لله لشفاء الطفلين، فوافقنا جميعًا على صيام ثلاثة أيام تقربًا لله.
بفضل الله، بدأت صحة ولديّ تتحسن تدريجيًا حتى شفيا تمامًا، وعادت وجنتاهما لتتورد كزهرتين في صباح ندي. لكننا لم ننسَ النذر، وقررنا بدء الصيام في اليوم التالي.
واجه علي تحديًا في توفير طعام السحور، لكنه أصر على السعي بيده. في السوق، التقى شمعون اليهودي، الذي عرض عليه صاعًا من الشعير مقابل أن تغزل يداي خيوط الصوف. وافق علي بكرم نفسه ورضاها، وعاد مبتسمًا ليقول: “فاطمة، اخبزي لنا من هذا الشعير”.
هكذا كانت روح الإيثار والتوكل على الله تملأ بيتنا، لتعلّمنا دروسًا في الصبر، التواضع، والعمل ببركة النوايا الصالحة.
استيقظتُ صباحًا وبدأت التجهيز لإفطار اليوم الأول، فقمتُ بطحن الشعير وأخبرت خادمتي فضة أن تُجهّز التنور لنخبز عليه ما طحنّاه. جهّزتُ كل شيء لإفطارنا، وجلسنا ننتظر الأذان. فتح علي باب الدار ليجد مسكينًا قد تعلّق بأطراف الباب يطلب الطعام من شدّة الجوع. اعتصر قلب علي ألمًا؛ إذ كان يؤنّب نفسه على احتمال وجود جائع في دولته وتحت حكمه، فهو لا يرضى بذلك أبدًا. عاد زوجي علي إلى حيث جلسنا، وأخبرنا بوقوف المسكين على الباب. أخذ قرص الشعير الخاص به، وضممنا إليه أقراصنا، ثم قام بإعطائها للمسكين قائلاً: “تفضل يا أخي وادعُ لنا الله”. ردّ المسكين: “شكرًا لك يا أبا الحسن، أطعمكم الله من موائد الجنة”.
عاد زوجي علي وقد ارتسمت على وجهه راحة كبيرة لما صنع من خير، وكذلك نحن، إذ ابتسمنا له وشربنا الماء فقط، وذهبنا لذكر الله.
في اليوم التالي، مع زقزقة العصافير، استيقظت كعادتي لترتيب المنزل وإعداد الإفطار، بينما ذهب زوجي علي إلى شمعون اليهودي ليعطيه ما غزلته يداي، ويستقرض بثمنه أصوع الشعير. جاءني علي بتلك الأصوع، فبدأت بخبزها بكل حب مع خادمتي فضة.
جهزنا المائدة ووضعنا أصوع الشعير عليها، وما إن أنهى زوجي مع والدي فرض المغرب حتى عاد ليبدأ بتناول الطعام. لكن، مع أول لقمة، دق الباب. ومن صوت الطرقات عرفنا أنه طفل صغير؛ إذ كانت دقاته متفرقة ورقيقة.
قام زوجي علي، وألقى اللقمة من يده، واتجه نحو الباب. خلف الباب كان الطفل الصغير، مترددًا في الطرق ثانية خوفًا من إزعاج أهل الدار، لكنه كان يعلم أن القلوب الطيبة التي تسكن هنا لن ترد محتاجًا. نادى الطفل: “السلام عليكم يا آل بيت النبي، السلام عليكم يا آل رسول الله. أنا طفل يتيم لا أب لي ولا أم، أضناني الجوع. ألا أجد عندكم ما أسد به رمقي؟”
فتح زوجي علي الباب، وقد اغرورقت عيناه بالدموع وهو يسمع كلام الطفل. أجلسه داخل الدار، ومسح عنه التراب، وقبّله، ومسح على رأسه، فهو راعي الأيتام الأكبر. ثم أخبرنا بما سمع ورأى. أخذ قرص الشعير الخاص به، وقمنا جميعًا بإضافة أرغفتنا إليه، وقد امتزجت بدموعنا وآهاتنا.
أخذ الطفل الأرغفة، وعلى وجهه ارتسمت أجمل ابتسامة بريئة. شكرنا ورحل. عاد أبو الحسن وجلس يشكر الله على حسن اختباره لنا بما يرسله من محتاجين إلى باب دارنا، لينالنا الخير والبركة في الدنيا والآخرة.
قال الحسين: “أمي، على الرغم من أني لم أذق الطعام منذ يومين، ولم أفطر سوى على الماء، أشعر بسعادة بالغة. ما السر في ذلك؟” أجبته: “يا ولدي، السر هو أنك ساعدت مسكينًا ويتيمًا جائعين، وقد دعوا الله لك. دعاؤهما هو ما جلب لك هذه السعادة، لأن من يعطي باسم الله لا يحزن”. هز الحسن والحسين رأسيهما دلالة على الفهم، ثم قبلتهما وناما بهدوء.
قضينا الليالي نذكر الله عند صلاة الليل، إلى أذان الفجر حيث نجتمع على دعاء واحد: أن ننال رضا الله في كل ما نفعل ونقدّم.
في اليوم الثالث
بدت أعراض التعب واضحة عليَّ وعلى زوجي علي، وحتى على طفلي الحسن والحسين، إذ بدوا كطيور صغيرة ترفرف بأجنحتها من شدة الجوع. نهضتُ، مستجمعة قواي، لأقوم بواجباتي اليومية، ولتجهيز الإفطار كعادتي مع خادمتي فضة، ولم تتوقف شفاهنا عن ذكر الله وتسبيحه.
قال لي زوجي علي: “يا أم الحسنين، هل جهّزتِ ما طلبت منك غزله ليلة البارحة؟” أجبته: “نعم يا زوجي العزيز، كل شيء جاهز”. ناولته الخيطان وودّعته: “رافقتك السلامة وليكن الله معك”.
انطلق زوجي علي إلى السوق حاملاً الخيطان المغزولة ليشتري مقابلها أصوع الشعير من شمعون اليهودي، الذي كان ينتظر قدوم أبي الحسن.
وعندما أقبل علي بنوره المشرق وهيبته المعهودة، سلّم بصوت خافت قائلاً: “السلام عليك يا أخي شمعون”. ردّ شمعون: “وعليك السلام، يا أبا الحسن. تفضّل هذا صاع الشعير، هنيئًا مريئًا”.
رجع زوجي علي إلى الدار، وتعلوه سيماء الصالحين، وأعطاني صاع الشعير. بدأت بخبزه مباشرة تجهيزًا للإفطار الذي سيحل بعد ساعة من الآن، وكان ولداي جالسين يقرآن القرآن معًا في باحة المنزل. وما إن ملأت الظلمة أرجاء المكان، وخشعت الأصوات لذكر الله، وحلّ الأذان، حتى تلا زوجي علي البسملة بصوته الإلهي الخاشع.
نظرنا إلى الطعام، وقد غارت عيوننا من شدة الجوع؛ فلم نذق شيئًا منه منذ ثلاثة أيام. وسرعان ما انقطعت تلك اللحظات بصوت الباب يُطرق عند موعد الإفطار بطرقات سريعة ومتتالية، وكأنّ من يطرقه يطلب المساعدة من أمر جلل ألمّ به.
نهض أبو الحسن يخطو برجليه ببطء شديد، إذ لم يكن يقوى على الوقوف كعادته من شدة الجوع. خلف الباب وقف شخصٌ متردد، يفكر: “ماذا أفعل؟ هل عليّ أن أطرق الباب أم أنتظر حتى يفتح أحدهم؟ سمعت أن أهل هذا البيت لا يردّون محتاجًا حتى لو كان مشركًا. أنا مسكين ولا أستطيع العمل ولا أقدر على الذهاب إلى أهلي. سأدق الباب وأجرب حظي”.
فتح زوجي علي باب الدار، فرأى رجلًا تبدو عليه آثار التعب والألم من شدة الجوع والأسى، ولا يبدو أنه من أهل المدينة. سأله زوجي علي: “أخبرني يا أخي، ما حاجتك؟” كان زوجي يعلم جيدًا أن لا أحد يطرق باب علي وفاطمة في هذا الوقت المتأخر إلا إن كان محتاجًا. أجابه الرجل: “يا علي، أنتم تأسروننا وتتركوننا لنجوع؟” ردّ علي: “لا يا عم، لسنا نحن من نفعل ذلك. انتظرني قليلًا ها هنا”.
قال الأسير: “سمعًا وطاعة يا أبا الحسن”. عاد زوجي وأخبرنا بأن أسيرًا يقف على بابنا، وسألنا كيف نكرمه. فأخذتُ أنا وأولادي أرغفة الشعير جميعها ووضعناها معًا. وعندما رأى زوجي علي ذلك، فرح فرحًا شديدًا، ثم أخذ رغيفه وأضافه إلى الأرغفة، ودفع بها جميعها إلى الأسير.
أخذ الأسير الأرغفة، وصارت الابتسامة تعلو وجهه من كل قلبه لهذا العطاء الوافر. قال زوجي علي: “الشكر لله يا فاطمة، إنه يمتحننا بأجمل الامتحانات ليرى شدة إيثارنا وصبرنا في طاعته”. قلت: “نعم يا أبا الحسن، وهو كما قلت، الشكر لله وحده لا شريك له”.
ثم قلت لأولادي: “هلموا لنشرب القليل من الماء، ونكمل دعاءنا وتلاوة القرآن الكريم”. فهتف صغيراي: “نعم يا أمي، هلمي بنا”.
في هدوء الليل وسكون الأصوات، ومع روعة ضوء النجوم والقمر وصفاء السماء، هبت نسائم العبير والزنبق على بيت أبي رسول البشرية ومخلصها من العبودية وعبادة الأصنام. في مثل هذه الأجواء، يكون قدوم الحبيب جبرائيل مبلغًا أو مسليًا لرسول رب العالمين.
هبط جبرائيل ومعه حلة من نور، وسلم على أبي قائلًا: “السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خاتم النبيين. العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: هنيئًا لك بأهل بيتك”.
ثم تلا عليه سورة الدهر، متضمنة بشائر وأسرارًا أعدت لأهل الجنة ونعيمها، لمن يعطي مما يحب في سبيل الله. شرح جبرائيل أخبارنا لأبي، فانقبض صدره بالحزن لما أصابنا من جوع وألم، ولم ينم تلك الليلة، منتظرًا قدوم الصباح بفارغ الصبر.
في صباح اليوم التالي
مع ساعات الصباح الأولى، حيث يبدأ النحل بجمع رحيق الأزهار، أقبل أبي إلينا وطرق الباب ثلاثًا. استقبله زوجي علي قائلًا: “السلام عليك يا أبا الحسن”. ردّ أبي: “وعليكم السلام يا رسول الله، أهلًا ومرحبًا بك في دارنا”.
طلب أبي رسول الله أن يحضر الحسنين ليراهما، فهما روحه وريحانتاه من الدنيا. جاءني زوجي علي وطلب مني أن أجهزهما. أيقظتهما وألبستهما أجمل ما عندهما من الملابس، ثم دفعتهما إلى أبيهما. لكن، من شدة الجوع، بدا الصغيران كفراخ طير مذبوحة، يتدليان من يدي أبيهما، يمسكان به بأيديهما الصغيرة البريئة.
دخل الحسنان إلى حيث جلس أبي بهدوء، يسبح الله ويحمده. وعندما رأى أبي ثمرتي قلبه تتدليان من شدة الجوع، احتضنهما بقوة وبكى مطولًا. ثم جاء إلى حيث كنت أصلي، وسلم علي قائلًا: “كيف حالكِ يا ابنتي فاطمة؟”
ثم صمت قليلًا، إذ رآني وقد التصق لحمي بعظامي من شدة الجوع، بالكاد أستطيع الكلام أو القيام. احتضنني بشدة وبكى، وبكيت معه.
بعد ذلك، طلب أبي بعض الطعام لنا، ولكنني متأكدة أنه ليس من طعام الدنيا، بل من طعام الجنة؛ لأن رائحته تشبه رائحتي، فأنا جُلبت من ثمار الجنة، وصرت نطفة في صلب أبي، ثم وُلدت حورية إنسية.
أخذ أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطعمنا بنفسه، واحدًا تلو الآخر، حتى شبعنا وحمدنا الله وشكرناه كثيرًا.
سألنا أبي كيف عرف ما حلّ بنا، وكيف جلب لنا الطعام وكأنه كان معنا. فأخبرنا بما كان من هبوط الوحي عليه، وتلا علينا سورة الإنسان المباركة.
عندما سمعنا تلك السورة المباركة، وفهمنا ما بها من أخبار الأبرار في النعيم، وقد أصبحنا نحن سادتهم بتضحيتنا وإيثارنا الغير على أنفسنا، استحققنا بذلك أن نكون سادة الإنسان بطول الدنيا وعرضها.
تهلل منزلي فرحًا بما سمعنا وعلمنا من سمو مقامنا، وعمت الأجواء أنوار الهدى والخير. وانغلق باب دارنا ليفتح للبشرية درس الإيثار والكرم والجود، منتظرًا من يطرقه وهو إنسان محتاج!
_________________________________________________
مقالات مسابقة اقلام على خطى الزهراء (عليها السلام) التي اطلقها مركز الثقافة الاسرية التابع للعتبة العباسية المقدسة.