أبناؤنا والعقوق
2020-10-30 10:44:47
617

إن انتشار ظاهرة العقوق وتفشيها في المجتمعات أصبح أمراً لافتاً للنظر، لا بدَّ من الوقوف عنده والعمل على علاجه ، مع أنه من المنطقي والواقعي أن يكون هناك محبة عظيمة بين الوالدين وأبنائهم، لأنَّ الوالدَيْن غالباً ما يكونوا هم أكثر من أحسن إلى الأولاد، والنفوس مجبولة على حبِّ مَنْ أحسن إليها، فلماذا يعقُّ الأبناء أو البنات والديهم؟ 

إنَّ كثيراً من النَّاس يعرفون الحقوق التي لهم، أما التي عليهم فيجهلونها أو يتجاهلونها، فترى الواحد منهم يلوم الآخر على التقصير في حقه، وهو أحق باللوم منه. 

فكثيراً ما تسمع الرجل يشكو من عقوق أبنائه، لكن قليلاً منهم من يحاسب نفسه، هل هو كان السبب في عقوقهم؟ لأن تصرفات النَّاس معنا غالباً ما تعكس طريقة تعاملنا معهم. 

فما قلبُ الصغيرِ سوى كتابٍ... تُسَطَّرُ في صحائفه الخلالُ

والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلِّ نقش وصورة، وهو قابلٌ لكلِّ ما نقش، ومائلٌ إلى كلِّ ما يُمَال به إليه ، فإنْ عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإنْ عُوِّد الشر، فلا ينبغي لأحدٍ أنْ يُطالِب بحقِّه قبل أن يؤدي واجبَه، فالذي يشكو من عقوق أولاده قد يكون هو الذي قد قصَّر في تربيتهم على الدين والأخلاق، أو قد يكون مقصراً في الجانب العاطفي معهم، أو يتعامل معهم بشدة غير مقبولة، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): (رَحِمَ اللهُ وَالِداً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ) فمن الآباء والأمهات من يتعامل مع أولاده بأي سلوب سواء كان حسناً أو قبيحاً، ويخطئ في حقهم بما يشاء، وقد ينتقم بعضهم بسبب ما يمر به من ظروف صعبة بالإساءة إلى أولاده إما بالكلام أو الضرب وغيره بحجة تربيتهم، وقد يكون خطؤهم يسيراً لو فعلوه في وقت آخر لما عوقبوا بذلك، وإنما هي الحالة السيئة التي كان فيها أحد والديه. 

فان بعض الآباء عندما يعود من عمله إلى البيت وتشكو زوجته من أخطاء بعض أبنائه، يتركهم ولا يتصرف معهم بشيء، فإذا عاد من أحد منهم خطأ أو تقصير مرة أخرى وكان الأب مُكدَّرَ الخاطر مُعكَّرَ المزاج، يقوم بضربهم جميعاً، ويكون الذي أخطأ هو واحد منهم وليس جميعهم، فإنْ لامه أحد قال: قد غضبت الآن وليس كل مرة سأغضب نفسي وأضربهم، وله بعض العذر في ذلك إن كان يراهم – وما نظنه كذلك - كنفس واحدة يجب أن يأخذوا بيد المسيء ويمنعوه، ولعله أخذ بنظرية جحا كما يحكى عنه أنه حذَّر ابنه من كسر الزجاج ثم ضربه، فقيل له: لماذا تضربه ولم يكسر شيئاً؟ قال: ما الفائدة من ضربه إذا كسر الزجاج، أنا أضربه قبل ذلك حتى يأخذ حذره. 

وقد يتهاون أحدهم فيدعو على ولده في ساعة غضب، ولا يدري أن هذه الدعوة قد تكون وبالاً عليه وسبباً لفساده، وقد حذر النبي صلى الله عليه واله وسلم من ذلك فقال: (لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ). 

وقد يستنكر أحدهم من أولاده سلوكاً سيئاً فتأخذه الحمية لدين الله فيبالغ في تعنيف ولده ويشنع عليه بطريقة غير مقبولة، فيقع في خطأ أكبر من خطأ ولده الذي يستنكر عليه، وقد قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

وقد أمر الله تعالى موسى وهارون(عليهما الصلاة والسلام) أنْ يقولا لفرعون قولاً ليناً مع أنه قد تجاوز الحدَّ في كفره وطغيانه، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّنَاً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.

يجب على الأولاد البر بالوالدين حتى لو أساؤوا، فليس البر مقتصراً على مقابلة الإحسان بالإحسان، إذ الإحسان لمن أحسن يكون لكل النَّاس حتى من غير المسلمين فقد قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين حتى لو كانا كافرين: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنيا مَعْرُوفاً}، وليس هناك ذنب أعظم من الكفر، فإذا كانوا مفرطين في حق الله ومع ذلك أمر الله بالإحسان إليهم فكيف إذا كانوا مفرطين بحق الابن؟! فالإحسان إليهم من باب أولى.

لكن هذا لا يعني عدم التقدير للأولاد أو الإساءة إليهم من هذا المنطلق، وقد عاتب أعرابي أباه - وإنْ كان الابن البار لا يستحسن أن يقول مثل هذا – فقال له: «إنَّ عظيمَ حقِّك علي، لا يذهب صغير حقِّي عليك، والذي تمتُّ به إليَّ أمتُّ بمثله إليك، ولستُ أزعم أنَّا سواء، ولكن لا يحلُّ لك الاعتداء». 

إن أعظم المربين والمعلمين هو النبي صلى الله عليه واله وسلم، وقد قال: (إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ). فكيف كان تعامل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه؟ 

لقد كانت تربية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائمة على الرفق والرحمة واللطف، قال الله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}،. وقال صلى الله عليه واله وسلم: (مَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ حُرِمَ الخَيْرَ). 

وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَقَالَ: (تَعفُو عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً). 

إنَّ هذا التعامل الراقي ايتها الفضليات هو الذي جعل زيد بن حارثة رضي الله عنه لا يريد بدلاً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعندما جاء لفدائه والده وعمه، وخيَّره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينه وبين أبيه وعمه، قال زيد لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم؛ فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية؟ وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.

فيا أيها الوالد وأيتها الوالدة، لا تكونوا سبباً في عقوق أبنائكم، لا تكونوا سبباً في فقدانهم لصوابهم وتورطهم بالعقوق، ووقوعهم في غضب الله وخذلانهم في الدنيا والآخرة ليكونوا ربيعاً نضرا لمستقبل مشرق.

وأخيراً نختم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} ، وقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)، وقال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: برنامج ربيع المستقبل-الحلقة الثالثة.

 

تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا