العطاء للآخرين إحسان للذات
2022/01/01
1050

 ينظر كثير من الناس الى الإحسان كمفردة واضحة المعنى ولا تحتاج إلى تفسير، وأن لفظها يدل على معناها البسيط، ولكن الاحسان في حقيقة الأمر أعمق من المعنى اللفظي بكثير، وكذلك يظن كثيرون أن الإحسان، يتمثل بخدمة الآخرين على حساب الذات، وعندما يقوم الإنسان بأعمال وأفعال يُحسن بها للآخرين، إنما يضحي من أجلهم فقط على حساب نفسه وراحته ومصالحه، لكن الأمر ليس كذلك قطعا، فعندما تقدم الاحسان للآخرين، فلا يقتصر الأمر على فوائد تقدمها لهم، وليس هم وحدهم المستفيدون من ذلك.

بيد إن فائدة الإحسان الأهم، تتمثل بالفوائد الكبيرة التي يحصدها من يقدم الإحسان لغيره، وبهذا يمكن أن نفهم ونستدل على أن الاحسان لا ينحصر بالآخرين، وإنما تشمل فوائده صاحب الإحسان بالدرجة الأولى، وفي مقدمة هذه الفوائد دنيويا، الراحة النفسية الكبيرة التي يعيشها ويشعر بها الإنسان المحسن لغيره

وإذا أردنا أن نذهب إلى آفاق أبعد، فإن الجزاء الإلهي عن الإحسان سوف يكون كبيرا في الآخرة، كما تدل على ذلك آيات قرآنية كثيرة، واحاديث شريفة تؤكد هذا الامر، لذلك على الإنسان أن يفهم بأنه صاحب الفائدة الأكبر عندما يحسن بأفعاله وأقواله ونواياه للناس الآخرين.

وإن من مصاديق الإحسان أن يندمج الإحسان مع روح الإنسان وتفكيره، حتى يلازم أفعاله طيلة حياته، فيتحول من صفة ربما تكون مؤقتة او مرحلية، الى ملَكة لا تزول إلا بزوال الانسان وانتقاله من الدار الأولى إلى الأخرى.

فينبغي ان يصبح الإحسان إلى الآخرين ملَكة في ذات الإنسان ترافقه في مختلف الأحوال، في الغنى والفاقة، في اليسر والعسر، في الفرح والحزن

وكثيرة هي مصاديق الإحسان، تبدأ من الكلمة لتنتهي إلى الأفعال والمواقف الكبيرة، ولكن كل هذه الأمور والجوانب الفرعية التي تدخل ضمن الاحسان للآخرين، لابد أن تتأطر بوعاء كبير جدا يمكن أن نطلق عليه بـ (الأخلاق الفاضلة)

فالإحسان منبعه الأول والدائم هو الأخلاق التي يتحلى بها الإنسان وهو يتعامل مع الآخرين، إذ غالبا ما نجد الناس من حملة الأخلاق الفاضلة، يقدمون الآخرين على أنفسهم ومصالحهم، وهم بهذا السلوك الأخلاقي الكبير، يؤكدون قدرتهم الفعلية على نكران الذات والإحسان للآخرين، فالأخلاق هنا من أهم مصاديق الإحسان.

والإحسان إلى الخلق له أبعاده الحضارية:

غير أننا نشهد اليوم صورة من صور الأنانية والفردية والذاتية التي باتت تهيمن على حياة فئة كثيرة من المسلمين، بحيث لا تعنيهم إلا مصالحهم ومنافعهم الشخصية ولا يلتفتون إلى مسؤوليتهم  وواجبهم الاجتماعي تجاه أفراد المجتمع من الفقراء والمساكين، والأرامل واليتامى، والمدينين والمعسرين، طلبة العلم والمحتاجين، والأقارب والجيران، وغيرهم كثير ممن أمر الله سبحانه ببرهم والإحسان إليهم.

ولقد نقل القرآن الكريم  لنا بعض مقاطع الحوار الذي يجري مع أهل النار وذكر من جملة ذلك إجابة المشركين عن سبب استحقاقهم لعذاب الله وجاء هذا في سورة المدثر: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ  حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ

فهم استحقوا نار سقر وعذابها ولهيبها؛ لأنهم كانوا مضيعين لحقوق الله تعالى ولعبادة الله، وهذا ما عبروا عنه في إجابتهم (لم نك من المصلين)، وكانوا مع ذلك أيضا مضيعين الحقوق الخلق فلا يطعمون المساكين ولا يشفقون عليهم ولا يؤدون واجبهم الاجتماعي تجاه المحرومين وأصحاب الحاجات. ولقد أكد القرآن الكريم على هذا المعنى في ضرورة رعاية هذين الحقين وأداء هاتين المسؤوليتن معا، دون تقصير في أي منهما في قوله تعالى في سورة الماعون : "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ  فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ  فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يراؤون  وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ

كما ويوجهنا الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن الإحسان إلى الخلق هو من أعظم بوابات الوصول إلى الخالق، وأن المحسن هو المستفيد الأول والمنتفع الأول من إحسانه وشفقته بخلق الله تعالى.

روي أن رجلا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا في مسجد المدينة ،ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام ".

نعم إن هذا السرور الذي تدخله على قلب المسلم قد يكون في القسط الجامعي الذي عجز الطالب الفقير عن أدائه لجامعته، قد يكون في أجرة المنزل التي تراكمت عليه حتى أصبحت دينا ثقيلا لا يقوى على الوفاء به ، قد يكون في فاتورة العلاج التي لا يستطيع تحملها،  قد يكون في إعانته على نفقة أولاده وعياله مع ارتفاع أعباء الحياة والتزاماتها ، قد يكون في أن تبذل من جاهك ومكانتك ومن وقتك وراحتك لتفرج عن المكروب، أو تنتصر للمظلوم أو تعين المبتلى،  فهذه كلها من أسباب القرب إلى الله والفوز بمحبته ورضوانه.

 كانت هذه وقفات بين يدي ترانيم الغدق والتي أغدقت علينا في هذه الحلقات بمجموعة من المبادئ والدلائل والضوابط والآثار التي تتركها مساعدة الآخرين في نفوسنا وفي ميزان أعمالنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، قلب قدم الإحسان بضمير ووجدان غايته رضا الرحمن والفوز بمقعد في جنة الرضوان.

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: برنامج ترانيم الغدق-الحلقة الثانية عشرة-الدورة البرامجية66.


 

 

 
تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا