2020/03/06
584 لعل أهم عامل يثير الرأفة والتضحية والإيثار بين أفراد العائلة هو تجلي روح الأُم بين أعضاء الأسرة، ومن هنا لا بدَّ من القول إنَّ المجتمع الإنساني يحتاج إلى علل وعوامل؛ ليتأمن صفاء الضمير بين أفراده، ولا تكفي فقط القوانين والمقررات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ومن ناحية أخرى، إنَّ المجتمع البشري الكبير يتشكل من مجتمعات عائلية صغيرة، ومادام لم يقع سبب الرأفة بين أعضاء الأسرة، فإن صفاء الضمير وروح التعاون وعلاقات المحبة لا تقوم أبداً عند تشكل المجتمع الرسمي؛ لأنَّه رغم أنَّ الأب يتولى الأعمال الإدارية لمجتمع صغير أي العائلة بعنوان قوله تعالى: ﴿الرجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، لكن أساس العائلة الذي شُيِّد على الرأفة والوفاء والارتباط هو بعهدة الأم؛ لأنَّ الأم تلد أبناءً يرتبط كل منهم بالآخر، والأفراد الذين يولدون من امرأة واحدة، ليسوا مثل فواكه شجرة واحدة، حيث لا تظهر روح الإيثار الإنساني في مستوى النبات، بل إن الأبناء الذين يولدون من امرأة واحدة سواء كان ذلك بفاصلة زمنية أو بدون فاصلة، يرأف ويرحم بعضهم بعضاً، وينمُّون اتصالهم الفطري في ظل التعاليم الدينية، وقد عُدَّ حفظ هذا الاتصال وعدم نسيانه من الواجبات المهمة في الدين، واذا قطع شخص هذا الاتصال الفطري والديني، سيحرم من الرحمة الإلهية الخاصة؛ لأنَّ صلة الرَّحم هي من الأشياء التي أمر بها الله تعالى.
وقد ورد اللعن لقاطعي الشيء الذي يجب وصله في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿الذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾.
ولعل سر ذكر الإفساد في الأرض إلى جانب قطع الشيء اللازم وصله هو أنَّ الأفراد الذين نموا في عوائل متدينة أصيلة، وأدركوا قانون صلة الرحم، وحفظ اتصال الأعضاء وعلموا به، عندما يدخلون المجتمع الرسمي لا يقومون بالإفساد في الأرض؛ لأنَّهم دخلوا المجتمع بروح اتصال وإيثار، ولكن الذين يترعرعون في عوائل غير متدينة، فأساس الارتباط الفطري يكون قد أُهمل فيما بينهم من أثر عدم مراعاة قانون صلة الرحم ولزوم الإيثار والتعاون وغيرها، لذا عندما يدخلون إلى المجتمع الرسمي تظهر لديهم ظواهر التوحش، فتنمو حالات التفرد وتقديم المصالح الشخصية على كل اعتبار آخر، والخلاصة مما ذكر أنَّ قانون صلة الرحم هو قاعدة مهمة تقوم بتربية المجتمع الصغير وتهيئ أرضية ازدهار المجتمعات الكبيرة.
كما وإن صلة الرحم هي قاعدة سائدة على الأرحام والمحارم والأقرباء، وسبب كل هذه الارتباطات هو ظهور جميع الأعضاء من رحم واحد، وذلك الرحم الذي يلد الأعضاء المرتبطة موجود في المرأة، والنتيجة أنَّ النواة الأساس للعائلة تتعهدها المرأة رغم أنَّ الرجل مسؤول عن الأعمال التنفيذية، وتأمين نفقات الحياة وأمثال ذلك، ومن هنا نقرأ في القرآن الكريم ضمن توصية الإنسان بتكريم الوالدين تذكيراً بجهود الأم في قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾.
كما أنَّ الأمام السجاد(ع) بيَّن في
رسالة الحقوق لزوم مراعاة حقوق الأرحام بمقدار الارتباط والقرابة
بالنسبة إلى الرحم، وأكد أنَّ أول حق في النظام العائلي هو للأُم،
ثم تحدَّث عن حق الأب وقال(ع): «وحقوق رحمك كثيرة، متصلة بقدر اتصال
الرحم في القرابة، فأوجبها عليك، حق أمك ثم حق أبيك، ثم حق ولدك، ثم
حق أخيك، ثم الأقرب فالأقرب»*، وهذا التقديم في حق الأم يوحي بعظيم
مقامها ومهامها على حدٍّ سواء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رسالة الحقوق للإمام زين
العابدين(ع): 1/9.
2025-12-07