ما بعد الأربعين: انعطافة في رحلة الإيمان وإعادة تقييم الذات
2024/08/31
49
ما بعد الأربعين: انعطافة في رحلة
الإيمان وإعادة تقييم الذات
فاطمة عباس
ما بعد الأربعين هو مرحلة فاصلة في
حياة الإنسان، لحظة يقف فيها الفرد ليتأمل مسيرته ويعيد تقييم رحلته
الروحية. إنه الوقت الذي يسأل فيه نفسه: "كم اغترفت من نبع الطهارة
والإيمان؟" هل كانت يداك ممتدة لتنقية قلبك من أدران الحياة، لغسل
العين من نظرات السوء، واللسان من كلمات الجفاء، والشفتين من الكلام
غير النبيل، واليدين من الأعمال المحرمة، حتى أخمص القدمين من السير
في دروب الضلال؟
هذه اللحظة ليست مجرد محطة زمنية، بل
هي فرصة للتأمل العميق. لا تتردد في الاغتراف من نبع الطهارة، فالفرص
لا تتكرر. اللبيب هو من أدرك أهمية هذه الفرصة قبل أن يبلغ الأربعين،
فهو من وجد ينبوع الطهارة في وقت مبكر، واستغلها لتروي عطشه الروحي.
في هذه المرحلة، يصبح الإنسان مثل الذي يستقي من معين كربلاء، حيث
يتحول الظمأ إلى ارتواء معنوي، والضياع إلى هداية.
كربلاء ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي
رمز لكل من يسعى إلى التحرر من قيود الذات، والتحول من حالٍ إلى حالٍ
أفضل. فمن يستغل هذه الفرصة للتحول لن يعود إلى ما كان عليه من ذنبٍ
وسوء الأحوال. في هذه المرحلة، يصبح الاستغفار رفيقًا دائمًا، طالما
أن نبع الأربعين لا يزال يفيض بالإيمان والطهارة.
لكن هناك من يتخذ من الأربعين مجرد
مناسبة عابرة، يكتفي فيها بلحظات من اللذة الحسية والروحية، قبل أن
يعود إلى حياته السابقة. هؤلاء هم من يعيشون لأجل اللذة الفانية قبل
الأربعين، سواء كانت في البكاء أو اللطم أو الأكل والشرب باسم الحسين.
لكن هذه اللذات، مهما كانت عميقة، لا تكفي. يجب أن تكون ما بعد
الأربعين مرحلة مختلفة تمامًا.
ما بعد الأربعين هو دعوة للتغيير
الجذري، للتعمق في معاني كربلاء وروحانية الأربعين. إنها مرحلة تستوجب
منك أن تكون كربلائيًا حقيقيًا، أن تتجاوز اللذات العابرة وتلتزم
بمعاني التضحية والصمود. لا تبتعد عن روحانية الأربعين، بل اجعلها
جزءًا لا يتجزأ من حياتك، لتكن تلك النقطة التي تبدأ منها رحلتك نحو
الأبدية، حيث لا عودة إلى الوراء، ولا استسلام لضعف النفس.
ما بعد الأربعين هو الوقت الذي يجب أن
تكون فيه في أقرب حالاتك إلى الله. بعد أن قطعت شوطاً طويلاً في
حياتك، يجب أن تتعلم كيف تكون مسؤولاً عن روحك وعن خياراتك. بعد
الأربعين، يصبح العطاء جزءًا لا يتجزأ من شخصيتك، ليس فقط تجاه نفسك،
بل تجاه الآخرين أيضًا. فتكون أكثر وعيًا بمسؤولياتك الاجتماعية
والروحية.
إنها لحظة للتعمق في فهم الحياة
ومعانيها، للتفكير في الأجيال القادمة، وكيف تترك أثراً طيباً يذكر من
بعدك. بعد الأربعين، تصبح القيم التي تعيش من أجلها أكثر رسوخًا في
قلبك وعقلك. يصبح الإيمان جزءًا لا يتجزأ من حياتك اليومية، وليس مجرد
شعائر تقوم بها بين الحين والآخر.
في هذه المرحلة، تكتشف أن هناك عمقًا
جديدًا للحياة، أن هناك مستويات من الإيمان لم تكن قد وصلت إليها من
قبل. تشعر بأنك أقرب إلى الله من أي وقت مضى، وأنك مستعد للالتزام
بالقيم والمبادئ التي تعلمتها طوال حياتك.
في النهاية، ما بعد الأربعين ليس مجرد
مرحلة عمرية، بل هو مرحلة نمو روحي ونضج فكري. إنه وقت للتفكير في ما
قدمته في حياتك وما يمكن أن تقدمه فيما تبقى منها. إنه دعوة للعيش
بعمق وإخلاص، لتكن حياتك مثالاً يحتذى به للأجيال القادمة، ولتكن
الأربعين بداية جديدة لمسيرة إيمانية تتجاوز حدود الزمن وتصل إلى
الأبدية.