لا تتركْ نية الخير
2024/06/11
219

مهما كثرت الأعمال وتنوعت ومهما تعددت فرص الخير وتمهدت فإن المدار فيها على النية الصحيحة؛ لذا قال تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا)، فالإسلام يطلب منا أن تكون لنا نية خير في كل فعل لأن كل فعل عبادي إذا لم يصدر عن نية قريبة فلا نفع فيه حسب القانون الإلهي، وهذا ما تصرح به العديد من الروايات الشريفة. 

روي أن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "إنما قدر الله عون العباد على قدر نياتهم فمن صحت نيته تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر عنه العون بقدر الذي قصر".. اضف الى ذلك أن الإسلام عدّ النية خيرًا من العمل في كثير من الأحيان، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "نية المؤمن أبلغ من عمله". 

وعنه (صلى الله عليه وآله): "نية المؤمن خير من عمله، وإن الله ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله، وذلك أن النية لا رياء فيها، والعمل يخالطه الرياء".. بل نجد في الإسلام أن خلود أهل الجنة وأهل النار إنما كان من أسبابه المهمة "النيات"، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): "إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبداً وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء"، ثم تلا قوله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته) قال "على نيته". 

ولأجل هذا حث أهل البيت (عليهم السلام) على لزوم النية في كل عمل مهما قل ففي وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: "يا أبا ذر، ليكن لك في كل شيء نية صالحة حتى في النوم والأكل".

ومن مصاديق حسن النية أن تكون نية المؤمن في السعي لمطابقة أعماله لما أراده الله عز وجل منه وبالكيفية التي بلغها عنه تبارك وتعالى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأئمة عترته الحافظين لسنته، روي في كتاب المحاسن والكافي وغيرهما أن الإمام الصادق جعفر بن محمد الباقر (عليهما السلام) سئل عن العبادة فقال: "حسن النية بالطاعة من الوجه الذي يطاع منه، وفي حديث آخر قال: حسن النية بالطاعة من الوجه الذي أمر به"..

ومن الممكن أن نعرف النية عند الكثير من الفقهاء هي الداعي، وعند علماء الكلام إرادة الفعل مقارنة له، وفي سائر الأحوال وعلى جميع الأقوال فإن النية بمعناها الشامل تنبع من القلب وأعماقه خالصة من كل ضغط وإكراه بعيدة عن التورية والتقية بحيث يكون مجموع العمل المنبثق عنها مرادًا لعامله راضيًا به وعازمًا عليه منذ البداية..

والإنسان الطيب تتكشف نفسه، وتتجسم نيته في أقواله وأفعاله بلا تكلُّف وتصنع، وبهذا ينسجم الإنسان مع قلبه وعقله، ويكون قريبًا من الله والناس ومحل ثقتهم وتقديرهم، وفي الحديث: "إن العبد إذا أظهر العمل بجوارحه، فاستوت سريرته وعلانيته، قال الله: هذا عبدي حقاً".. أما من يختفي وراء الظواهر فهو شيطان، مهمته التضليل والاحتيال، والغدر والاغتيال. 

كيف يمكن أن يكون العمل بلا نية؟ 
لا أثر للعمل بلا نية من حيث العقوبة والمثوبة، لأن الحساب والجزاء يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالمعرفة والحرية، وحيث تنعدم الحرية والاختيار تنتفي المسؤولية.. هذا ما تقتضيه الأصول والقواعد، وبه جاء الشرع مثل (إنما الأعمال بالنيات، ولا عمل بلا نية.. لن يُدخل أحدًا عمله الجنة) أي إلا مع النية الخالصة لوجه الله تمامًا كالإيمان الذي عليه تتوقف صلاحية العمل.

 أجل العقوبة المالية لا تُناط بالمعرفة والاختيار، ولا بالعقل والبلوغ، فمن أتلف مال غيره فعليه البدل والتعويض بمثله أو قيمته حتى لو كان التلف عن جهل أو غير قصد أو من قاصر سنًا أو إدراكًا، وأيضًا النية والإرادة ليست بشرط في تطهير الساتر والبدن من النجاسة المادية كالمبطلات المعروفة مع أن طهارتهم شرط في صحة الصلاة.  

أما النية بلا عمل، فإذا نظرنا إلى النية في ذاتها بغض الطرف عن علاقتها بالفعل والفاعل كان وجودها كعدمه تمامًا كالتصورات والأمنيات التي لا يلحقها أي فعل ونشاط، أما قوله تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ﴾، وما في هذا المعنى من الآيات فالمراد منه ما يُترجم ويتجسم في شيء ملموس، أما السجين الدفين في الأعماق من حيث هو، فلا سؤال عنه ولا حساب عليه.

وإذا نظرنا إلى النية من حيث علاقتها بصاحبها، كان لها شأن ووزن، وإن ظلت سجينة في النفس، لأن نية الخير تنبئ عن طيب القلب وشرف النفس وكمال الذات، ونية السوء والشر تدل على خبث السريرة ومرض في القلب ونقص في الذات والصفات..

والأول أهل للإحسان والإكرام لأنه يستشعر الخير ويُرجى منه، على عكس الثاني الذي لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، وهو بذلك يستحق الذم والعقاب بحكم العقل والعقلاء، ولكن الله سبحانه يعفو عنه تفضلًا منه وكرمًا، قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأما العاصي أمرك فلم تعاجله بنقمتك.. ولقد كان يستحق في أول ما همّ بمعصيتك ما أخرت عنه من عذاب.. فترك من حقك ورضي دون واجبك، فمن أكرم منك يا إلهي؟"..
وفي
 الحديث: "من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وان همّ بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.. ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه".

وكل ما قيل أو يمكن أن يقال حول هذا الموضوع فهو مجرد محاولة لتفريع الجزئيات واستخراجها من هذا المبدأ العام كما قيل "لا يصلح قول إلا بعمل، ولا يصلح قول وعمل إلا بنية، ولا يصلح قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة" لأن ما خالف كتاب الله وسنة نبيه فهو بدعة وضلالة.
وأخيرًا صلوات الله وسلامه على الصادق الناطق بلسان جده سيد الكونين (صلى الله عليه وآله) حيث يقول: "علينا أن نلقي اليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا".

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: إذاعة الكفيل - برنامج ميزان التفاضل - الحلقة السادسة - الدورة البرامجية 79.

تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا