فلسفة اللغة العربية وهي فلسفة تعكس أن الفكر هو المقياس الذي تُقاس به الأشياء، وإطلاق الألفاظ في العربية يكون بالنظر الى ما يحصل في الذهن وليس بالنظر الى حقيقة الموجودات، ومثال ذلك عندما وضع لفظ الأسد لمعنى من المعاني بلا إشكال أخذ بالحسبان مصداق خصوصيات هذا اللفظ، يعني نظر إلى هذا الحيوان المفترس وعندها وضع لهذه الصورة المتصورة في الذهن لفظ أسد في اللغة العربية أو أي مفردة أخرى في اللغات الأخرى.
فالمفهوم هو الصورة الذهنية عن الأشياء، أما المصداق فهو تنزيل تلك الصورة الذهنية في الواقع.. ويقول قاسم أمين في "كلمات": "في اللغات الأخرى يقرأ الإنسان ليفهم. أما في اللغة العربية فإنه يفهم ليقرأ: فإذا أراد أن يقرأ الكلمة المركبة من هذه الأحرف الثلاثة (ع ل م) يمكنه أن يقرأها عَلَمْ أو عِلْم أو عُلِم أو عُلِّم أو عَلَّم أو عَلِم.. ولا يستطيع أن يختار واحدة من هذه الطرق إلا بعد أن يفهم معنى الجملة، فهي التي تعيِّن النطق الصحيح؛ لذلك كانت القراءة عندنا من أصعب الفنون" وهذا بحث مرتبط بفلسفة اللغة وغير مرتبط باللغة.
لقد اخترنا لكم في هذا السياق مثالًا عن المفهوم ومصداقه، مثالًا أكده لنا الله تعالى في كتابه العزيز إذ قال تعالى في سورة المدثر: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ}، والقسورة في اللغة العربية هو الأسد، فالذي يقرأ الآية المباركة، فأنه يتخيل المفهوم كما جاء في تفسير الميزان بما معناه بأنه تشبيه للمشركين من حيث حالهم في الاعراض عن التذكرة، والحمر جمع حمار (أجلكم الله)، والمراد الحمر الوحشية التي فرت من الأسد الشجاع وهو القسورة..
وعن الإمام الصادق(عليه السلام): "
نزل قوله تعالى: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} في أمير المؤمنين
(عليه السلام) ففي حديث جبير: أنت أول من آمن بي وأول من جاهد معي
وأول من ينشق عنه القبر..
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا خرج من بيته تبعه أحداث
المشركين يرمونه بالحجارة حتى أدموا كعبة وعرقوبيه وكان علي (عليه
السلام) يحمل عليهم فينهزمون فنزل: {كأنهم حمر مستنفرة فرت من
قسورة}.
ويروى أنه عندما حاصر النبي العظيم
(صلى الله عليه وآله) اليهود في خيبر وهم متحصنون في حصنهم المنيع
أعطى الراية لأحدهم، وذهب وما لبث إن عاد يجبّن القوم، ثم أمر
الرسول بإعطاء الراية الى الآخر وعاد كصاحبه، بعدها قال الرسول
مقولته المشهورة والتي هي باقية الى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
قال الرسول(صلى الله عليه وآله): "لأعطين الراية غدا رجل كرار غير
فرار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله على
يديه"..
فبات الناس تلك الليلة والكل يتمنى أن يكون هو المعني، فلما أسفر
الصبح عن ليله، قال النبي (صلى الله عليه وآله): أين اسد الله
الغالب؟ أين ابن عمي علي بن أبي طالب؟
فقالوا إنه أرمد يا رسول الله (يعني به مرض في إحدى عينيه) فقال
(صلى الله عليه وآله): احضروه فلما جاء الإمام عليه السلام أخذ
النبي من ريقه ووضعه في عين الإمام فصارت أحسن من الأولى.. ثم سلمه
الراية وذهب بها وهو ينادي أين أبطال خيبر فليأتوني صاغرين فخرج له
مرحب وهو من أشجع فرسانهم ويعد بألف فارس قال له مرحب من أنت؟ فقال
الإمام بل من أنت؟ قال مرحب:
أنا الذي سمتني أمي مرحبا
قد علمت خيبر أني مرحــب
شاكي سلاحي بطل مجرب
فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا الذي سمتني
أمي حيدرة ضـرغام آجـــام وليث قسورة
فكان مولانا (عليه السلام) هو المصداق الحق لمفهوم القسورة الذي ورد
في القرآن الكريم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: إذاعة الكفيل - برنامج رصانة وجمال - الحلقة
الثامنة -
الدورة البرامجية 79.