إن للغربة معنيين:
الأول: البعد عن الأهل والوطن
والديار.
والثاني: قلة الأعوان
والأنصار.
وهو روحي فداه غريب بكلا المعنيين
فيا عباد الله أعينوه ويا عباد الله انصروه.
إن مولانا المهدي (عجل الله تعالى
فرجه الشريف) يدل على غربته بالمعنى الأول أنه وحيد بعيد وفي عزلة
عن أهله، وبالمعنى الثاني ما مر في حديث الجواد (عليه السلام): فإذا
اجتمعت له هذه العدة، يعني ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من أهل الإخلاص
أظهر الله أمره..
فكيف طالت السنون، ومضت الأعوام،
ولم تجتمع هذه العدة للإمام (عجل الله تعالى فرجه)، فهذا أقوى شاهد
على قلة أنصاره وغربته.
ويدل على ذلك أيضا ما ورد في البحار
عن غيبة الشيخ الطوسي:
النفس الزكية غلام من آل محمد (صلى
الله عليه وآله) اسمه محمد بن الحسن يقتل بلا جرم ولا ذنب، فإذا
قتلوه لم يبق لهم في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر، فعند ذلك يبعث
الله قائم آل محمد (عجل الله تعالى فرجه) في عصبة لهم، أدق في أعين
الناس من الكحل، فإذا خرجوا بكى لهم الناس، لا يرون إلا أنهم
يختطفون يفتح الله لهم مشارق الأرض ومغاربها، ألا وهم المؤمنون حقا،
ألا إن خير الجهاد في آخر الزمان.
ويدل على أن التشبيه بالكحل من جهة
القلة قوله: لا يرون إلا أنهم يختطفون أي يستلبون من جهة قلتهم،
ويدل على هذا المعنى ويؤيده ما ورد في البحار، عن أمير المؤمنين
(عليه السلام): أصحاب المهدي شباب لا كهول فيهم، إلا مثل كحل العين،
والملح في الزاد، وأقل الزاد الملح.. ويدل على غربته (عجل الله
تعالى فرجه) بالمعنيين جميعا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في
الحديث المروي في كمال الدين قال: "صاحب هذا الأمر الشريد الطريد
الفريد الوحيد".. وفيه عن
داود بن كثير الرقي قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)
عن صاحب هذا الأمر قال: "هو الطريد الوحيد، الغريب الغائب عن أهله،
الموتور بأبيه (عليه السلام)".
ليس غريباً أن نبكي على الحسين (عليه السلام) لعظم ما جرى عليه وعلى أولاده وأصحابه ونساءه فإنها مظلومية تصرخ في الأجيال مضمخة بالدماء الزواكي، فمن الطبيعي إذن أن تبكي عليه الأرض والسماء لأن جانب الظلامة في قضية الحسين (عليه السلام) واضح وجلي لا يحتاج إلى استنطاق التاريخ والتأمل في عالم الغيب، ولكن هذا الأمر لا يجري في بقية الله الأعظم إلاّ بعد التأمل باستكشاف عظم مظلوميته وذلك لأجل احتواء قضية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) على حلاوة النصر والعدالة العالمية وازهاق الباطل فهذه الخصائص التي سادت في العقلية الشيعية والإسلاميّة غيبت جوانب أخرى من خصائصه ومنها ظلامته (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
ومن هنا جاء تأكيد أهل البيت (عليهم السلام) على هذه الخصيصة وهذه الصفة باعتبارها أحد أهم معالم شخصية الإمام (عليه السلام) حيث نجد أن أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) قد أكثروا من البكاء والتوجع والتألم له (عليه السلام) ولا يكون هذا كله نتيجة لشوقهم إليه فقط..
إذاً هنالك مظلومية عظمى في شخصية الإمام (عليه السلام) هي الباعثة لتوجع وتألم أهل البيت (عليهم السلام) وهذا ما نجده واضحاً جلياً في قضية الإمام الصادق وكيفية بكاءه ونحيبه على الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) وقد استعرضنا الرواية سابقاً، كما حاول أهل البيت وعلى رأسهم النبي الأكرم إبراز جانب المظلومية في الإمام المهدي وذلك من خلال الروايات والأحاديث الكثيرة الواصفة للإمام والمبينة لخصائص مظلوميته (عليه السلام) فهو الطريد وهو الشريد وهو الفريد وهو الوحيد المنفرد عن أهله الموتور بأبيه كما جاء في لسان الكثير من الروايات فعن الاصبغ ابن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: "صاحب هذا الأمر الشريد الطريد الفريد الوحيد"، وجرى ذلك على لسان أصحاب أهل البيت لكي يستنطقوا ذاكرة المنتظرين ويستحثوها لابراز هذه الخصوصية وهذه الظلامة الكبرى، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "لما دخل سلمان الكوفة ونظر إليها ذكر ما يكون من بلاءها حتّى ذكر ملك بني أمية والذين من بعدهم"، ثمّ قال: "فإذا كان ذلك فالزموا أحلاس بيوتكم حتّى يظهر الطاهر ابن الطاهر المطهر ذو الغيبة الشريد الطريد".
وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، فإن ما لقيه مهدي هذه
الأمّة وما سيلقاه أكثر بكثير من جده رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) كما جاء في الكثير من الروايات فعن الفضيل بن يسار قال:
سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إن قائمنا إذا قام استقبل من
جهال الناس أشد مما استقبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
جهال الجاهلية".
قلت: وكيف ذاك؟
قال: "إن رسول الله أتى الناس وهم يعبدون الحجارة والصخور والعيدان
والخشب المنحوتة، وإن قائمنا إذا قام أتى الناس وكلهم يتأول عليه
كتاب الله يحتج به عليه".
ثمّ قال: "أما والله ليدخلنّ عليهم عدله جوف بيوتهم كما يدخل الحر
والقر".
وإذا كان الحسين (عليه السلام)
غريباً ووحيداً فإن حفيده المهدي المنتظر أكثر وحدةً وأعظم غربةً من
جده الحسين (عليه السلام) إذ كيف لنا أن نتصور أن من بيده قلائد
الأمور وتصاريف الوجود وهو مشرد لا يعرف قراراً ولا استقراراً ولا
أمناً ولا أماناً خلال قرون عديدة وسنين متطاولة يرى قتلة آبائه
الطاهرين وشيعتهم أمام عينيه في كل يوم ولا يثأر لهم حتّى يأذن الله
سبحانه وتعالى.
هل يا ترى قد استوعبنا وأدركنا عظم
هذه المظلومية؟ كلا لعمري لم نعرف إلاّ غيظاً من فيظ وقليلاً من
كثير، لكننا نشير إلى حالته سلام الله عليه فهي تحكي عن الكثير مما
خفي علينا في عبارة موجزة تستبطن من وراءها الكثير الكثير من هذه
الظلامة وهي قوله إشارة لمصيبة جده الحسين عليه السلام: "فلأندبنك
صباحاً ومساءاً ولأبكين عليك بدل الدموع دماً".
إنَّ مسيرة الإسلام المحمدي الأصيل
منصورة بإذن الله تعالى، فإذا كُنَّا نعيش الغربة في خطِّنا ورؤيتنا
وعقيدتنا ومقاومتنا، فإنَّ الخطب يهون مع مرضاة الله تعالى، وتوفيقه
الدائم الذي يسدِّد به المسيرة، بانتظار قيادة الإمام المهدي عجل
الله فرجه لمسيرة العدل العالمية، فلا يحبطنَّكم ما يحيط بكم، فإنَّ
الاستقامة هي المعيار، والفرج آتٍ بإذن الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: إذاعة الكفيل - برنامج بانتظار الآتي - الحلقة
التاسعة -
الدورة البرامجية 77.
المرأة بين الزيف والضياع.. فما الحل؟!