سنتحدث عن مرحلة جديدة من مراحل حياة الأولاد وهي المرحلة الثانية التي تبدأ من سن ( 7- 14) سنة.
أختي المربية.. إن السنوات السبع الثانية، أي من عمر سبع سنين إلى سن الأربعة عشر عاماً، هي سنوات اكتساب الصفات والمواهب والتحصيل العلمي للولد، ففي هذا العمر تتوسع القدرات العقلية للولد ويتلقى العلوم الأساسية، والمسلكيات الاجتماعية، كما أن تركيز الأهل على الولد في هذا العمر ينبغي أن يكون أكثر من سابقه ولا سيما على من يصادق.
وقد أشارت الروايات إلى العديد من
الأمور التي ينبغي على الولد تحصيلها في هذه السنوات السبع
ومنها:(الآداب والأخلاق)، فإن الولد في هذه الفترة صفحة بيضاء يتلقى
الآداب والمسلكيات والأخلاق التي يراها لتترسخ في نفسه ويسير على
نهجها، وإن الأساس في سلوكه ينبغي أن يبدأ في هذه المرحلة فعلى
الوالدين أن يعلما أولادهما الأخلاق والآداب الاجتماعية، ففي الحديث
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أكرموا أولادكم
وحسنوا آدابهم يغفر لكم"، وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله
وسلم): " لئن يؤدب أحدكم ولداً خير له من أن يتصدق بنصف صاع كل
يوم".
أختي الأم: إن من المعلوم أنّ أوّل
مدرسة لتعليم القيم الأخلاقيّة، يدخلها الإنسان هي الاُسرة، فكثيرٌ
من اُسس الأخلاق، تنمو في واقع الإنسان هناك، فالمحيط السّليم
والملّوث للاُسرة، له الأثر العميق في صياغة السّلوك الأخلاقي،
لأفراد الاُسرة، إنّ على مستوى الأخلاق الحسنة والسيئة، فالحجر
الأساس للأخلاق في واقع الإنسان يوضع هناك.
وتتبيّن أهميّة الموضوع، عندما يتّضح أنّ الطفل في حركته التكامليّة، ومسيرته في خط التّربية:
أولاً: يتقبّل ويتأثر بالمحيط بسرعة كبيرة.
ثانياً: إنّ ما يتعلمه الطّفل في صغره، سوف ينفذ إلى أعماق نفسه وروحه، وقد سمعنا الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام، يقول فيه: "العِلمُ فِي الصِّغَرِ كالنَّقشِ فِي الحَجَرِ"، فالطفل يستلهم كثيراً من سجايا أبيه واُمّه واُخوته وأخواته، فالشّجاعة والسّخاء والصّدق والوفاء، وغيرها من الصّفات والسّجايا الأخلاقيّة الحميدة، يأخذها ويكسبها الطّفل من الكبار بسهولة، وكذلك الحال في الرّذائل، حيث يكسبها الطّفل من الكبار بسهولة أيضاً.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الطّفل يكسب الصّفات من أبويه عن طريق آخر، وهو الوراثة، فالكروموسومات لا تنقل الصفات الجسمانية فحسب، بل تنقل الصفات الأخلاقيّة أيضاً، ولكن من دون تدخل عنصر الإجبار، حيث تكون هذه الصّفات قابلةٌ للتغيير، ولا تسلب المسؤوليّة من الأولاد أيضاً.
وبعبارة اُخرى، انّ الأبوين يؤثران على الطّفل أخلاقياً من طريقين، طريق التّكوين، وطريق التّشريع، والمراد من التّكوين هو الصفات والسّجايا المزاجيّة والأخلاقيّة المتوفرة في الكروموسومات والجينات، والّتي تنتقل لا إرادياً للطفل في عمليّة الوراثة.
والطريق التشريعي يتمثل في إرشاد الأبناء، من خلال أساليب التّعليم والتّربية للصفات الأخلاقيّة، التي يكتسبها الطفل من الأبوين بوعي وشعور.
ومن المعلوم أنّ أيّاً من هذين الطّريقين، لا يكون على مستوى الإجبار، بل كلّ منهما يُهيّىء الأرضيّة لنمو ورشد الأخلاق في واقع الإنسان، ورأينا في كثير من الحالات أفراداً صالحين وطاهرين، لأنّ بيئتهم كانت طاهرةً وسليمةً، والعكس صحيح أيضاً. ولا شك من وجود إستثناءات في الحالتين تبيّن أنّ تأثير هذين العاملين، وهي: "التربية والوراثة"، لا يكون تأثيراً على مستوى جَبر، بل يخضع لأدوات التّغيير وعنصر الإختيار.
ونعود بعد هذه الإشارة إلى أجواء القرآن الكريم، لنستوحي من آياته الكريمة ما يرشدنا إلى الحقيقة:
(قوا أنفسكم وأهليكم ناراً .....) ويمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة، وهي أنّ الوراثة والتربية، من العوامل المهمّة، في رسم وغرس القيم الأخلاقيّة في حركة الواقع النفسي للإنسان، إن على مستوى الأخلاق الحسنة والسيئة.
ولا شكّ أنّ المدرسة الأولى للإنسان، هي واقع الاُسرة، فمنها يتعلم الإنسان الدّروس الاُولى للفضيلة والرذيلة. وإذا ما تناولنا مفهوم التربية بشكله العام: "التكوين والتشريع"، فإنّ أوّل مدرسة يدخلها الإنسان، هي رحم الاُم وصلب الأب، والّتي تؤتي معطيّاتها بصورة غير مباشرة على الطفل، وتهيىء الأرضيّة للفضيلة، والرّذيلة في حركته المستقبليّة.
وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة، تعبيراتٌ لطيفةٌ ودقيقةٌ جدّاً في هذا المجال، نشير إلى قسم منها:
قال الامام عليٌّ (عليه السلام): "حُسْنُ الأَخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأَعراقِ"، وبناءً عليه فإنّ الاُسر الفاضلة، غالباً ما تقدّم للمجتمع أفراداً متمّيزين على مستوى الأخلاق الحسنة، وبالعكس فإنّ الأفراد الطالحين، ينشؤون غالباً من عوائل فاسدة.
وورد في حديث آخر عن الإمام علي
عليه السلام أنّه قال: "عَلَيكُم فِي طَلبِ الحَوائِجِ بأشراف
النُّفُوسِ وَذَوي الاُصُولِ الطَّيِّبَةِ، فإِنَّها عِنْدَهُم
أَقضى، وَهِي لَدَيهِم أَزكَى"، وفي عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر
(رحمه الله)، ووصاياه له في إختيار الضّباط للجيش الإسلامي، قال
له:
"ثُمَّ الصَقْ بِذَوي المُروُءاتِ
والأَحسابِ وَأَهلِ البُيُوتاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوابِقِ
الحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجدَةِ وَالشَّجَاعَةِ والسَّخاءِ
وَالسَّمَاحَةِ فإِنَّهُم جِماعُ مِنَ الكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ
العُرفِ".
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام، حديث يُبيّن تأثير الآباء الفاسدين على شخصية الأطفالِ وسلوكهم الأخلاقي، فقال: "أَيَّما إِمرَأَة أَطاعَتْ زَوجَها وَ هُوَ شارِبٌ لِلخَمْرِ، كَانَ لَها مِنَ الخَطايا بِعَدَدِ نُجُومِ السَّماءِ وَكُلُّ مَولُود يُولَدُ مِنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ".
وقد ورد في الحديث النبوي المشهور، بالنّسبة إلى تأثير تربية الأب والاُم على الأولاد، أنّه قال: "كُلُّ مَولُود يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتى يَكُونَ أَبواهُ هُمَا اللَّذانِ يُهِوِّدانِهِ وَيُنَصِّرانِهِ"، فالتربية التي تعمل على تغيير إيمان وعقيدة الطّفل، كيف لا تعمل على تغيير سلوكه الأخلاقي في الدّائرة الإجتماعية؟
وهذا الأمر جعل مسألة التربية الصّالحة، من أهم حقوق الطّفل على الوالدين، فنقرأ في الحديث النبوي الشّريف: "حَقُّ الوَلَدِ عَلى الوَالِدِ أَنْ يُحْسِنَ إسمَهُ وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ".
فمن الواضح أنّ مداليل الأسماء، لها أثرها الأكيد على نفسيّة وروحيّة الطّفل، فأسماء الشّخصيات الكبيرة من أهل التّقوى والفضيلة، تجذب الإنسان المُسمّى بأسمائهم إليهم، وتدعوه للتّقرب إليهم، وبالعكس، فإنّ أسماء الفسقة والكفّار، تقرّب من يتسمى بأسمائهم منهم أيضاً.
- ونقرأ في الحديث النبوي الشريف أيضاً: "ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ أَفضَلَ مِنْ أَدب حَسَن".
وقال الإمام السجّاد (عليه السلام)،
بتعبير أوضح: "وَإِنَّكَ مَسؤولٌ عَمَّا وَلِّيتَهُ بِهِ مِنْ
حَسَنِ الأَدبِ وَالدَّلالَةِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّوَجَلَّ وَ
المَعُونَةَ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ".
وقال الإمام علي (عليه السلام)،
بأنّ أخلاق الأبوين، هي عبارة عن ميراث الأبناء منهما، فيقول (عليه
السلام): "خَيرُ ما وَرَّثَ الآباءُ الأَبناءَ
الأَدَبَ".
ونختم هذا الحلقة بحديث آخر عن
الإمام على عليه السلام، حيث بيّن الإمام عليه السلام، شخصيته
للجهّال الذين يقيسونه بغيره، فقال:
"وَقَدْ عَلِمْتُم مَوضِعي مِنْ
رَسُولِ اللهِ بِالقَرابَةِ القَريبَةِ وَالمَنزِلَةِ الخَصيصة، وَ
ضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدرِهِ...
يَرفَعُ لِي كُلَّ يَوم عَلَماً مِنْ أَخلاقِهِ وَ يَأَمُرُنِي
بِالإِقتِداءِ..".
واللطيف في الأمر، أنّ الإمام (عليه السلام) وفي أثناء حديثه، بيّن قسماً من أخلاق الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: "وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن لَدُنْ أَن كانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ لَيلَهُ ونَهارَهُ".
وصحيح أنّ الصفات النفسية والأخلاقيّة، سواء كانت سيئة أم حسنة، فهي تنبع من باطن الإنسان وإرادته، ولكن لا يمكن إنكار معطيات البيئة وأجواء المحيط، في تكوين وترشيد الأخلاق الحسنة والسّيئة، وكذلك عنصر الوراثة من الوالدين والاُسرة بصورة أعم، وتوجد شواهد عينيّة كثيرة، وأدلة قطعيّة على ذلك، ترفع الشّك والترديد في المسألة.
وبناءً على ذلك، ولأجل بناء مجتمع
صالح وأفراد سالمين، علينا الإهتمام بتربية الطّفل تربيةً سليمةً،
والإنتباه لعوامل الوراثة وأخذها بنظر الإعتبار، في واقع الحياة
الفرديّة والإجتماعيّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: برنامج حنايا القلب-
الحلقة الثامنة - الدورة البرامجية الرابعة
والثلاثون.