القدوة الناعمة
2020/11/30
524

والمقصود بها القدوة التي تتسلل إلينا تدريجياً ومن دون أي ضجيج من خلال وسائل الإعلام التي لا تتوقف عن البث طوال ساعات اليوم وطوال أيام السنة.
هذه القضية من أهم وأصعب القضايا التي تؤثر بشكل كبير على القدوة التي تقدم إلينا، أولاً لأنَّها لا تتوجه إلى مرحلة عمرية محددة بل إلى كل مراحل عمر الإنسان، وثانياً لأنَّها لا تقدم القدوة غالباً بشكل مباشر، بل تتشكل عناصر هذه القدوة من خلال التكرار والإيحاءات والصور التي تتحول بمرور الوقت إلى قدوة، ومصدر هذه الخطورة هو في ما يمكن أن نسميه التسلل الهادئ والناعم للأفكار وللنماذج التي تتحول بمرور الوقت ومن خلال التكرار إلى قيم جديدة نقتدي بها، فتغير من طريقة تفكيرنا بل من طريقة تصرفنا في الحياة، بحيث لا ننتبه في معظم الأحيان إلى أنَّ مواقفنا تجاه هذه القضية أو تلك قد تغيرت أو أنَّ إعجابنا بهذه الفكرة قد تبدل إلى فكرة أخرى جديدة لم نكن نقبل بها سابقاً، فهذه الوسائل تقدم نماذج تصبح قدوة تكون غالباً قدوة سلبية، لأنَّ هذه الوسائل تفرض علينا طوال ساعات طويلة في اليوم، لذا علينا أن نحد من تأثير هذه الوسائل وأن نختار ما نرى، لا أن نكتفي بتلقي كل ما يعرض علينا من دون توقف.

ثمة أمثلة كثيرة تفسر لنا هذا التشكل الناعم للقدوة على مستوى السلوك والأفكار، فالصور التي لا تتوقف معظم الفضائيات ومواقع الإنترنت عن تقديمها عن الشباب «من الذكور والإناث» الذين يعيش أحدهم منفرداً بعيداً من أهله، ومن دون أي رقابة اجتماعية، وينتقل من هذا العمل إلى ذاك، ومن هذه العلاقة إلى تلك، ولا يكترث للروابط الأسرية، ولا العادات أو التقاليد، سوف يشكل هذا النموذج أو الفكرة قدوة لشباب وشابات العالم الآخرين، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، حيث يشاهدون هذا النمط من الحياة ويقارنون بينه وبين حياتهم من ناحية الضوابط الأخلاقية والدينية والسلوكية المختلفة، بحيث يتوق الشاب أو الفتاة إلى تقليد ذلك النموذج ويطمح إلى الاقتداء بما يراه وهذا الأمر هو أحد أهم أسباب تلك الرغبة الجامحة لدى الكثير من الشباب في البلدان الإسلامية لمغادرة بلدانهم إلى الغرب؛ ظناً منهم بأنَّ ما يرونه في السينما وفي الفضائيات هو حقيقة سهلة يمكن الحصول عليها بمجرد أن تطأ أقدامهم تلك البلاد، وهكذا يتحول الغرب إلى قدوة، يعبر الشباب عن التعلق بها من خلال الرغبة في الهجرة التي تزداد نسبة ارتفاعها يوماً بعد آخر.

إنَّ الاستهلاك أيتها الفضليات هو نموذج آخر للقدوة الناعمة وهو الذي يتحول إلى طريقة في التفكير وإلى سلوك يقود تصرفاتنا، والاستهلاك هو الرغبة في الشراء وفي اقتناء الأشياء المختلفة حتى لو لم نكن بحاجة إليها، ونقيض الاستهلاك بهذا المعنى هو أن نشتري ما نحتاج، أي أنَّ المقارنة بين الرغبة وبين الحاجة هي أنَّ الرغبة عادة لا حدود لها، أما الحاجة فمحدودة، والاستهلاك يحرض الرغبة التي لا حدود لها بحيث يندفع الإنسان إلى الاقتناء والى الشراء حتى لو لم يكن بحاجة إلى ما سيشتريه، هكذا تنشأ عادات وقيم جديدة تصبح بمرور الوقت والتكرار بمثابة قدوة في التعامل مع الذات ومع الآخرين، ومن هنا تنشأ قيم التباهي، وقيم التملك بحيث تصبح القدوة هنا هي النموذج الذي ينسجم مع تلك القيم، وهذا بدوره يفترض المزيد من الشراء ومن الاستهلاك طالما أنَّ الأسواق تضخ من دون السلع التي يرتبط الحصول عليها بالمكانة الاجتماعية، فعندما يتحول الاستهلاك إلى سلوك أو عادة وإلى وسيلة للترقي الاجتماعي يصبح قدوة ناعمة تمارس نفوذها من دون أي صخب أو ضجيج، وربما يصعب أن نفصل بشكل واضح بين القدوة التي نريد أن يقتدي بها الإنسان في أي مرحلة من مراحل العمر وبين المثال الأعلى الذي يتخذه قدوة له ويحاول أن يفعل مثله ويقتدي به ويسير على هدي سلوكه وأفكاره، والمثال الأعلى هو غالباً شخص محدد، ولكنه قد يكون كما أشرنا فكرة في الوقت نفسه.

بمعنى أنَّ المثال الأعلى الذي يفترض الاقتداء به قد يكون نمط حياة أو نموذج للعيش أو طريقة في السلوك أو في الاستهلاك أو حتى طريقة في التفكير وفي التعامل مع الآخرين.

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: برنامج المثل الأعلى-الحلقة الثانية.

 

 

 

 

تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا