الاسرة وبناء النفس والعاطفة
2020/07/13
437

لو عدنا الى مجتمعنا الذي نعيش فيه وزرنا السجون ومستشفيات الأمراض العقلية، ثم دخلنا المدارس وأحصينا الراسبين من الطلاب والمشاكسين منهم والمتطرفين في السياسة والذاهبين بها الى أبعد الحدود، ثم درسنا من نعرفهم من هؤلاء جميعاً لوجدنا ان معظمهم حرموا من الاستقرار العائلي، ولم يجد معظمهم بيتاً هادئاً فيه أب يحنو عليهم، وام تدرك معنى الشفقة فلا تفرط في الدلال ولا تفرط في القسوة، وفساد البيت أوجد هذه الحالة من الفوضى الاجتماعية وأوجد هذا الجيل الحائر الذي لا يعرف هدفاً ولا يعرف له مستقراً. 

 إن انحراف الأفراد وجنوحهم، واهتزاز وعدم استقرار شخصياتهم، إنما يعود الى تلك التربية النفسية في البيت، فإن احترام الفرد في الأسرة والتعامل معه كوحدة انسانية لها مشاعرها الخاصة ينشئ تلك الشخصية القوية، والتي تستطيع ان تواجه كافة ضغوط الحياة، ومنها التغلب على تلك العقد النفسية كعقدة الحقارة والخوف والانهزامية والسلبية، أو بتعبير أدق عدم التأثر بمثل لك العقد بأي شكل من الأشكال، ولذلك كان احياء شخصية الطفل واحترامه والامتناع عن تحقيره واهانته هو الطريق لبناء نفسية الفرد القوية والى ذلك يشير الرسول (ص واله ):  "اكرموا اولادكم واحسنوا آدابهم"؛ فعدم استقامة العائلة اخواتي عبارة عن عدم سلامة وأمن البيت الذي يربى فيه الأولاد اما بالكبت، او بالتنازع، او بالمزيد من العطف، فان كل ذلك يوجب عدم استقامة النفس مما ينتهي بالآخر الى الانحرافات الروحية. 

 وفي كثير من البلاد الغربية يقع الأولاد أوائل بلوغهم بين تناقض متطلبات العائلة منهم، مثلاً:  من ناحية يريد الأبوان من البالغين الاستقلال في إدارة أمورهم الاقتصادية وغيرها ومن ناحية اخرى يربطون الأولاد بالبيت وبالطاعة للأبوين، ومن الطبيعي ان يقع التناقض بين الاستقلال واللاإستقلال . 
 وكذلك الحال يكون مع الأولاد الذين يريد الآباء منهم الطاعة، ولا يقومون بكل حوائجهم ولو عدم تزويجهم، وبذلك يحدث الانفصام والعقد النفسية، فاللازم اما اعطاء الحاجة ـ ولو النواقص منها ـ في قبال الطاعة واما ترك الأولاد ليقوموا بحوائج انفسهم باستقلال من غير تطلب الطاعة منهم؛ فالطاعة لا تكون إلا في قبال الحاجة، فإذا اختل الميزان اختلت الصحة النفسية بما اوجب الانحراف، وهذه هي حالة الحكومات في قبال الشعوب، فاللازم إما إعطاء حاجاتهم في حال طلب الطاعة منهم، وإما تركهم وشأنهم لتحصيل حاجاتهم بأنفسهم بدون تطلب الطاعة، وانما يكون شأن الحكومة حينئذ المراقب لئلا يطغى بعضهم على بعض. 

 وفي بعض الأمم يتجلى التضاد في العائلة بمظاهر أخرى، مثلاً : الأب يريد المجازاة للمسيء من الأولاد، لكن الأم تمنع ذلك، فيقع الطفل بين هذين النقيضين، أو يرد ألاب انهاء الدارسة للأولاد ليساعدوه في عمله ومزرعته، وتريد الأم عكس ذلك، أو تريد الأم زواج البنت، ويريد الأب عدم زواجها لأجل خدمة البيت، أو غير ذلك، لون آخر من ألوان التضاد، تسيب الأولاد في الدار، وارادة الانضباط منهم لدى الذهاب الى السفر، أو الى الضيافة أو عند حلول الضيف لديهم. 

 والحاصل: إنه كلما يوجب الازدواجية يوجب انفصام الشخصية مما ينجز بالآخرة الى الأمراض والعقد النفسية .. وحيث أن النفس والجسم يتبادلان المرض، ولذا قيل: ( العقل السليم في الجسم السليم) فاذا مرضت النفس وتعقدت أوجبت بالإضافة الى انحراف خط سير الحياة للمريض ولمن يرتبط به، تأثير المرض النفسي الى جسمه.

 قد يسمع الأطفال ان حديثا يدور حولهم وأن الحديث يتناول ذكرهم ومعايبهم وتأويل سذاجتهم الى شيء من البلادة والحمق.. عند ذلك يدركون أن الكبار يحقرونهم ويوجهون اللوم والتقريع نحوهم دون أن يفهموا روحياتهم في حين ان هؤلاء الأطفال الأبرياء لا يعلمون السبب في توبيخهم وتأنيبهم ... 
 ولذلك يقول مولانا الامام الحسن العسكري (ع) : « جرأة الولد على والده في صغره تدعو الى العقوق في كبره »، إن عدم احترام الفرد وتحقيره في أسرته تولد ذلك النوع من الأفراد المليئين بالرواسب والعقد النفسية. 

ومما نقل لنا في بطون الكتب أن المأمون العباسي خرج ذات يوم للصيد فمر اثناء الطريق برهط من الأطفال يلعبون، والامام محمد بن علي الجواد(ع) واقف معهم لم يتجاوز عمره آنذاك احدى عشر سنة، فلما رآه الأطفال فروا بينما وقف الامام الجواد (ع) في مكانه ولم يفر، هذا الامر أثار تعجب المأمون فسأله: 
 لماذا لم تلحق بالأطفال حين هربوا؟ 
 فقال له: « يا امير المؤمنين لم يكن الطريق ضيق لأوسعه عليك بذهابي ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظني بك حسن، انك لا تضر من لا ذنب له فوقفت. 
 لقد تعجب المأمون من هذه الكلمات الحكيمة والمنطق الموزون والنبرات المتزنة للطفل. فسأله: ما اسمك؟

قال : محمد 

قال : محمد ابن من؟

قال : « ابن علي الرضا » ..

 عند ذلك ترحم المأمون على الإمام الرضا (ع) ثم ذهب لشأنه. 

وختاماً نقول أن شخصية الامام الجواد (ع) تدل على تلك التربية التي تلقاها في حجر والده الامام الرضا (ع)، وتلك النفسية العالية، فلا الخوف من السلطان وجنوده أو التحدث مع الكبار بتلك الصورة لتهز من كيانه وثقته بنفسه، وليس غريباً الأثر الكبير للأسرة في الجانب النفسي والعاطفي والروحي على افرادها، ومحاولة الدقة في التعامل مع افراد الأسرة في محاولة لتجنب الوقوع في اوحال الأمراض النفسية العديدة. 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: برنامج أسرتنا إلى أين؟- الحلقة السابعة-الدورة البرامجية56.

 

 

 

تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا