بلاغة الإعلام
2025/03/17
83
بلاغة الإعلام

كيف يمكن للكلمة أن تهزّ القلوب وتُبدّل العقول؟
وهل تقتصر قوة الخطاب على وضوح المعنى، أو أنّ هناك سرّاً أعمق يجعل بعض الكلمات خالدة في الذاكرة، قادرة على إحداث التحوّل في الأفراد والمجتمعات؟
من القرآن الكريم إلى خطب الإمام زين العابدين (عليه السلام)، تتجلّى أمامنا نماذج إعلامية بليغة تجاوزت حدود الزمان والمكان، فهل يمكن للإعلامي اليوم أن يستلهم من هذه الأساليب ما يجعله أكثر تأثيراً وصدقاً في رسالته؟
لا شك في أنّ القرآن الكريم لم يكن مجرد كتاب تشريع وهداية، بل كان أيضاً نموذجاً لغوياً متفرِّداً، استطاع بأسلوبه أن يخاطب العقول والقلوب على حدٍّ سواء، ومن أبرز ما يميِّز لغته أنّها جمعت بين الإيجاز والوضوح، وبين التأثير العاطفي والمنطق العقلي، مما جعله أعظم نصٍّ تواصلي في التاريخ.
تجلّت في القرآن الكريم دقة التعبير ووضوح المعنى، إذ تأتي الألفاظ منتقاة بعناية، تؤدي الغرض بأقصر الطرق وأبلغها، فقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ (البقرة: 83) يعبّر عن مبدأ أخلاقيٍّ شامل بكلمتين فقط دون إسهاب أو تعقيد. كما أن القرآن اعتمد الإيجاز حين يكون المطلوب إيصال الفكرة بسرعة، والإطناب حين يكون التفصيل ضرورياً، كما في قصة يوسف (عليه السلام)، إذ جاءت التفاصيل لتعميق التأثير النفسي وتعزيز الفكرة المستهدفة.
إحدى أعظم خصائص القرآن الكريم أنّه يخاطب الجميع، فنجده يُوجِّه منطقه إلى العقول بأسلوب استدلالي مقنع، كما في قوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 111)، وهو طرح منطقي يجبر المتلقي على البحث عن إجابة، وفي الوقت ذاته، يخاطب العاطفة بصور بيانية تُحدث أثراً نفسياً بالغاً، كما في تصوير مشاهد يوم القيامة التي تزرع الخشية والرهبة في القلوب، ومن الأدوات التي استخدمها القرآن بقوة: (التكرار الهادف)، مثلما نجد في سورة الرحمن حين تتكرر آية: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، وهو ليس مجرد تكرار لفظي، بل أسلوب تأكيدي يرسِّخ المعنى في الذهن.
ومن يتأمل النهج الإعلامي للإمام زين العابدين (عليه السلام)، يجد أنّه سار على ذات الخطى القرآنية في قوة البيان وعمق التأثير، فخطابه في مجلس يزيد، على الرغم من قصره، كان من أعظم النصوص الإعلامية التي كشفت الحقائق ببلاغة لا تُجارى، إذ بدأ بتعريف نفسه ونسبه بأسلوب يدفع الحاضرين لإعادة التفكير فيما سمعوه من الإعلام الأموي، فقال: «أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا...»، فاختار ألفاظاً تختصر تاريخه الناصع، وتجبر المتلقي على المقارنة بين الحق والباطل دون إسهاب أو مواجهة مباشرة.
إنّ هذا (النهج القرآني) وهذا (الأسلوب العلوي) يمثلان درساً لكلِّ إعلامي يسعى لإيصال رسالته بفاعلية، فالإعلامي الناجح هو الذي يدرك كيف يستخدم كلماته بذكاء، بحيث تكون واضحة ودقيقة، بعيدة عن الغموض أو التهويل، قادرة على التأثير العاطفي والإقناع المنطقي معاً، ولنا في الأحداث الجارية مثال واضح، إذ نجد أنّ بعض الإعلاميين يستخدمون لغة مباشرة تخاطب العقول عند تقديم التحليلات، في حين أنّهم يستخدمون الخطاب العاطفي في التقارير الإنسانية، تماماً كما فعل القرآن والإمام زين العابدين (عليه السلام) في مخاطبتهما الناس بأساليب متنوعة وفق السياق.
من هنا، فإنّ أيَّ إعلامي يريد أن يكون مؤثراً ينبغي أن يستلهم من القرآن الكريم ومن نهج الإمام زين العابدين (عليه السلام) منهج الوضوح والإيجاز، مع توظيف الأساليب البلاغية التي تجعل خطابه أقرب إلى القلوب والعقول معاً.

✍️ أفياء الحسيني

__________________________________________

نشرة الكفيل/نشرة أُسبوعيةٌ ثقافيةٌ (مجانية)، تتناولُ المعارفَ القُرآنيةَ، والعقائديةَ، والفِقهيةَ، والتاريخيةَ، والأخلاقيةَ، والتربويةَ، والاجتماعيةَ، والصحيةَ بأُسلوبٍ مبسّطٍ ومختصرٍ، تصدر عن العتبة العباسية المقدسة/ العدد 1012.
تحدث معنا
يمكنكم التواصل معنا من خلال التحدث بشكل مباشر من خلال الماسنجر الفوري تحدث معنا